أنور السادات، الرئيس المصري الأسبق، لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان رجل دولة يمتلك دهاءً ومكراً فريداً، صفات أهلته لقيادة مصر في واحدة من أهم محطاتها التاريخية: حرب أكتوبر 1973. ففي عام 1972، وضع السادات خطة خداع إستراتيجي محكمة، بالتعاون مع قادة المخابرات المصرية والعسكرية، كانت تهدف إلى تضليل إسرائيل والعالم بأسره حول نوايا مصر العسكرية. هذه الخطة، التي شملت 18 خدعة، كانت أحد أبرز العوامل التي أسهمت في تحقيق المفاجأة الكاملة للجيش الإسرائيلي يوم السادس من أكتوبر 1973.
1. خدعة القمح الإستراتيجي
أدرك السادات أن أي حرب مقبلة ستتطلب مخزونًا غذائيًا كافيًا لضمان استمرارية مصر في ظل الحرب. ولذلك، أمر باستيراد كميات كبيرة من القمح بطريقة ذكية وغير ملفتة. قام جهاز المخابرات العامة بتسريب معلومات مغلوطة عن أن أمطار الشتاء أغرقت صوامع القمح المصرية وأتلفت محتوياتها، وهو ما تسبب في فضيحة إعلامية. تفاعلت وسائل الإعلام مع هذه الأخبار، مما جعل استيراد كميات ضخمة من القمح يبدو كخطوة طبيعية لتفادي أزمة داخلية، في حين كانت هذه الكميات مخصصة لتأمين احتياجات البلاد خلال الحرب.
2. إخلاء المستشفيات بذريعة الميكروب الغامض
تحسبًا للجرحى الذين قد يسقطون في ميدان القتال، أمر السادات بإخلاء المستشفيات الرئيسية استعدادًا لاستقبال حالات الطوارئ. ولكن، لتفادي إثارة الشكوك، تم نشر أخبار عن اكتشاف ميكروب غامض تسبب في تلوث المستشفيات، مما استدعى إخلاءها لتنفيذ عمليات التطهير. نشر الخبر في جريدة الأهرام، وأخذ الرأي العام المصري الخبر على محمل الجد دون أن يشك أحد في نوايا التحضير للحرب.
3. المصابيح وقطع الغيار: حيلة لتأمين الإضاءة
للحفاظ على القدرة على إدارة البلاد في حال حدوث انقطاع للكهرباء نتيجة للغارات الجوية المتوقعة، تم استيراد كميات ضخمة من المصابيح وقطع غيار السيارات تحت غطاء من السرية. نُظمت الصفقة مع أحد المهربين المعروفين بتهريب قطع الغيار، وبمجرد وصول الشحنة، استولت عليها السلطات المصرية وعرضتها في المجمعات الاستهلاكية، مما جعلها تبدو كمجرد عملية تجارية عادية.
4. نقل الدبابات للجبهة تحت غطاء الأعطال
في الوقت الذي كانت فيه الأنظار موجهة إلى التحركات العسكرية المصرية، قامت السلطات العسكرية بنقل الدبابات إلى الجبهة تحت ذريعة إصابتها بأعطال ميكانيكية. تم نقل ورش التصليح إلى الخطوط الأمامية، وبذلك لم يثر انتقال الدبابات في طوابير طويلة أي شكوك لدى المراقبين الإسرائيليين.
5. تسريب معلومات مضللة حول معدات العبور
من بين الخدع الأبرز كانت تلك المتعلقة بمعدات العبور. فقد تسرب تقرير عسكري مزيف يشير إلى حاجة الجيش المصري لمعدات عبور ضخمة، مما أثار السخرية لدى الجانب الإسرائيلي. وعندما وصلت الشحنة إلى ميناء الإسكندرية، تُركت على الرصيف دون أي اهتمام، ولكن لاحقًا نُقلت نصف الكمية إلى منطقة صحراوية بحلوان وتمت تغطيتها بطرق ذكية لتبدو ضعف حجمها الأصلي، في حين تم نقل النصف الآخر إلى الجبهة بطرق غير ملحوظة.
6. خط بارليف الوهمي في الصحراء
لإتمام خطة الخداع بشكل مثالي، تم بناء نموذج كامل لخط بارليف في الصحراء الغربية. هذا النموذج كان يستخدم لتدريب الجنود المصريين على اقتحام الخط الحقيقي، ولكن الخطة تضمنت خداع الأقمار الصناعية الإسرائيلية. تم وضع عدد من الخيام البالية والأكشاك الخشبية المتآكلة وعليها لافتات قديمة تشير إلى شركات مقاولات مدنية، مما جعل الأمر يبدو وكأنه مجرد مشروع بناء غير عسكري.
مكر السادات ومفاجأة العدو
من خلال هذه الخدع وغيرها، استطاع السادات أن يجعل الجيش المصري على أتم استعداد لخوض الحرب، بينما كان العدو الإسرائيلي في حالة من الاطمئنان الكاذب. تلك الحيل التي نسجت بعناية، حولت استعدادات الحرب إلى سلسلة من الأخبار المضللة التي أثرت على استيعاب إسرائيل للواقع. عندما بدأ الهجوم المصري على قناة السويس في السادس من أكتوبر 1973، كانت المفاجأة شاملة وكاملة.
كان أنور السادات بحق “الثعلب الأسمر”، سيد المكر والدهاء الذي استطاع بحنكته وخداعه أن يضلل العدو، ويفتح الطريق أمام الجيش المصري لتحقيق الانتصار التاريخي الذي أعاد لمصر والعالم العربي كرامته.