في تاريخ الأمم، تتجلى أحيانًا شخصيات قد لا تحظى بالتقدير الذي تستحقه، رغم أن أدوارها كانت حاسمة في تغيير مسارات الحروب أو مصائر الشعوب. أحد هذه الشخصيات هو اللواء أركان حرب باقي زكي يوسف، الذي يُعد العقل المدبر وراء واحدة من أبرز التكتيكات العسكرية في القرن العشرين، وهو تحطيم خط بارليف الإسرائيلي الذي اعتُبر يومًا ما غير قابل للاختراق. إن فكرة استخدام المياه لتجريف الساتر الترابي، والتي طرحها يوسف، قد ساهمت في تغيير مجرى حرب أكتوبر 1973، وكان لها دور أساسي في تحقيق النصر المصري واستعادة سيناء من الاحتلال الإسرائيلي.
خلفية تاريخية: نكسة 1967 وخط بارليف
قبل أن نستعرض الفكرة العبقرية التي قدمها اللواء باقي زكي يوسف، علينا أن نفهم السياق التاريخي الذي جاءت فيه هذه الفكرة. بعد النكسة في عام 1967، كانت مصر تعيش في حالة من الانكسار والإحباط بعد احتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء. وكان الجيش الإسرائيلي، بعد أن حقق انتصاراته السريعة والمذهلة في حرب الستة أيام، قد بنى سلسلة من التحصينات القوية على الضفة الشرقية لقناة السويس لمنع أي محاولة من الجيش المصري لاستعادة سيناء.
خط بارليف، الذي سُمي على اسم الجنرال الإسرائيلي حاييم بارليف، كان يتألف من سلسلة من الحصون والمخابئ، إلى جانب ساتر ترابي هائل يمتد على طول القناة. كان الساتر الترابي يمتد بارتفاع يصل إلى 22 مترًا، وبزاوية انحدار تصل إلى 45 درجة، ما جعله يشكل عقبة كبرى أمام أي محاولة لعبور القناة. وظنت إسرائيل أن خط بارليف غير قابل للاختراق، معتبرةً إياه حصنًا منيعًا يحمي سيناء من أي هجوم مصري.
ولادة الفكرة العبقرية
وسط هذا السياق من الإحباط والتحدي، برزت عبقرية اللواء باقي زكي يوسف. ولد يوسف في 23 يوليو 1931، وتخرج في كلية الهندسة بجامعة عين شمس عام 1954. بعد التخرج، انضم إلى القوات المسلحة المصرية كضابط مهندس في سلاح المركبات، ليبدأ رحلته العسكرية والمهنية التي ستقوده لاحقًا إلى تقديم أحد أبرز الابتكارات العسكرية في حرب أكتوبر.
قبل حرب أكتوبر، انتُدب يوسف للعمل في مشروع بناء السد العالي بأسوان بين عامي 1964 و1967. كان لهذا الانتداب تأثير كبير على حياته المهنية؛ إذ تعلم يوسف كيفية استخدام مضخات المياه لتجريف الرمال من مناطق البناء. في ذلك الوقت، كانت المضخات تُستخدم لفتح قنوات مائية كبيرة، وتجريف جبال الرمال لتسهيل بناء السد. وقد لاحظ يوسف أن نفس التقنية يمكن تطبيقها لتجريف الساتر الترابي لخط بارليف، الذي يتكون في أغلبه من الرمال.
الفكرة تتبلور
في سبتمبر 1969، قدم باقي زكي يوسف فكرته للمرة الأولى إلى القيادة المصرية. اقترح استخدام مضخات المياه الضخمة التي كانت تُستخدم في مشروع السد العالي لتجريف الساتر الترابي لخط بارليف. ورغم أن الفكرة بدت للوهلة الأولى غير معقولة، خاصة أن التحصينات الإسرائيلية كانت مصممة لتكون غير قابلة للتدمير بالقوة العسكرية التقليدية، إلا أن يوسف كان واثقًا من نجاحها. فقد رأى أن المياه المضغوطة يمكن أن تكون سلاحًا فعالًا في تحطيم الساتر الترابي الذي كان الإسرائيليون يعتقدون أنه حاجز لا يمكن تجاوزه.
مرحلة التحضير للعبور
استغرق الأمر بعض الوقت لإقناع القيادة المصرية بجدوى الفكرة، ولكن مع مرور الوقت، أصبحت الفكرة جزءًا من الخطة العسكرية المصرية لشن هجوم واسع على خط بارليف. تم تجهيز نحو 300 مضخة مياه ضخمة، وقد تم تدريب الجنود المصريين على كيفية استخدامها لتجريف الساتر الترابي وفتح ثغرات كبيرة تسمح بمرور القوات والمعدات العسكرية عبر قناة السويس.
خطة العبور كانت تعتمد على عنصر المفاجأة والسرعة. فالقيادة المصرية كانت تدرك أن الإسرائيليين، رغم ثقتهم الكبيرة بخط بارليف، لن يتوقعوا أن يتمكن المصريون من اختراقه بهذه السرعة. ولذلك، كانت الاستعدادات تجري بسرية تامة، وتم تدريب القوات المصرية على تنفيذ عمليات العبور بسرعة وكفاءة عالية.
يوم العبور العظيم: 6 أكتوبر 1973
في تمام الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، انطلقت القوات المصرية في أكبر عملية عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية. بدأت المضخات الضخمة في العمل، وبدأت مياه القناة تتدفق بقوة نحو الساتر الترابي، مما أدى إلى انهياره خلال ساعات قليلة. كانت القوات المصرية جاهزة للعبور، وبدأت فرق المشاة والدبابات في اقتحام خط بارليف بسرعة هائلة.
لم يكن الإسرائيليون يتوقعون أبدًا أن يتمكن المصريون من تدمير الساتر الترابي بهذه السرعة. ففي أقل من 6 ساعات، تمكنت القوات المصرية من فتح ثغرات كبيرة في خط بارليف، وبدأت في الانتشار عبر سيناء. لقد كانت فكرة اللواء باقي زكي يوسف هي التي ساهمت في تحطيم الغرور الإسرائيلي، وأثبتت للعالم أن الابتكار والإبداع يمكن أن يكونا سلاحًا فعالًا في الحروب.
كسر الغرور الإسرائيلي
كانت حرب أكتوبر، وخاصة عملية عبور خط بارليف، بمثابة صفعة قوية للجيش الإسرائيلي. فقد كان الإسرائيليون يعيشون في حالة من الغرور العسكري بعد انتصاراتهم في حرب 1967، وكانوا يعتقدون أنهم غير قابلين للهزيمة. لكن نجاح المصريين في تدمير خط بارليف وكسر التحصينات الإسرائيلية كان له أثر نفسي كبير على إسرائيل. لقد أظهرت حرب أكتوبر أن الإسرائيليين، رغم تحصيناتهم وقوتهم العسكرية، ليسوا منيعين، وأن الإرادة والتفكير الإبداعي يمكن أن يقلبا موازين القوة.
إرث باقي زكي يوسف
رغم الدور الحاسم الذي لعبه اللواء باقي زكي يوسف في تحقيق نصر أكتوبر، إلا أن اسمه لم يحظَ بالشهرة التي يستحقها. بعد الحرب، خرج يوسف من الجيش برتبة لواء في عام 1984، وتم تكريمه بنوط الجمهورية من الطبقة الأولى تقديرًا لدوره في الحرب. لكن الإعلام والدولة لم يمنحاه التقدير الكافي، وربما لم يلتفت الكثيرون إلى دوره الكبير في تحقيق هذا النصر العظيم.
لقد أثبت باقي زكي يوسف أن الابتكار في التفكير والتكتيك يمكن أن يكون أهم من القوة العسكرية التقليدية. كانت فكرته لتجريف الساتر الترابي باستخدام مضخات المياه هي المفتاح الذي فتح الباب أمام القوات المصرية لعبور القناة وتدمير خط بارليف، ما مهد الطريق للنصر المصري في حرب أكتوبر.
الدروس المستفادة من الفكرة العبقرية
الفكرة التي قدمها باقي زكي يوسف لتدمير خط بارليف لا تزال تُدرس في الأكاديميات العسكرية حتى اليوم. فقد كانت هذه الفكرة نموذجًا للإبداع التكتيكي في ساحة المعركة. وتعلمنا هذه الفكرة أن الحروب ليست دائمًا معارك للأسلحة والقوة النارية، بل يمكن أن تكون معارك للأفكار والابتكارات.
لقد أعادت حرب أكتوبر للعرب كرامتهم، وأثبتت أن الإرادة القوية والتخطيط الجيد يمكن أن يحققا ما كان يُعتبر مستحيلاً. فخط بارليف الذي كان يُعتقد أنه لا يمكن تجاوزه، انهار في ساعات قليلة بفضل فكرة بسيطة لكنها عبقرية، وبفضل شجاعة الجنود المصريين الذين نفذوا هذه الفكرة بإتقان.
التكريم والنسيان
رغم كل ما قدمه باقي زكي يوسف، إلا أن الإعلام والدولة لم يسلطا الضوء الكافي على دوره الحيوي في تحقيق نصر أكتوبر. ومع مرور السنوات، بدأت ذاكرة الأمة تتناسى هذه الشخصية الفريدة، لكن الحقيقة تظل أن انتصار حرب أكتوبر ما كان ليحدث لولا فكرة اللواء يوسف.