على مدار تاريخ الصراع المصري الإسرائيلي، كانت هناك العديد من العمليات التي لعبت فيها المخابرات المصرية دورًا محوريًا في حماية الأمن القومي واستعادة الكرامة الوطنية. ومن بين هذه العمليات، تبرز قصة القبض على الجاسوسة هبة سليم، التي وصفها اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة الأسبق ورئيس ملف الشؤون العسكرية الإسرائيلية بعد هزيمة 1967، بأنها “عملية القرن”. هذه العملية لم تكن مجرد قضية تجسس أخرى، بل كانت محورًا أساسيًا في إيقاف تسريب 70% من المعلومات الحيوية عن القوات المسلحة المصرية إلى إسرائيل.
هبة سليم: البداية وتجنيدها
بدأت القصة عندما كانت هبة سليم طالبة عادية في جامعة عين شمس، حيث لم تكن متفوقة أكاديميًا. وكما يروي اللواء رشاد، كانت تدرس الأدب الفرنسي وكان رئيس قسم الأدب الفرنسي في الجامعة أستاذًا معارًا من جامعة السوربون. كان هذا الأستاذ يتمتع بنفوذ كبير، واستطاع أن يوفر منحتين للدراسة في فرنسا، إحداهما كانت لهبة سليم على الرغم من عدم كونها الأفضل أكاديميًا.
عندما وصلت هبة إلى باريس، بدأت عملية تجنيدها لصالح المخابرات الإسرائيلية. لم يكن الأمر عشوائيًا، بل كان جزءًا من خطة إسرائيلية أوسع تهدف إلى استغلال الشباب المصريين الذين يدرسون في الخارج وتجنيدهم لخدمة مصالحها. نجحت إسرائيل في تجنيد هبة بسرعة، وتحوّلت من طالبة عادية إلى واحدة من أخطر الجواسيس في تاريخ الصراع بين مصر وإسرائيل.
هبة سليم: الجاسوسة المثالية
كانت هبة سليم بالنسبة للمخابرات الإسرائيلية كنزًا لا يقدر بثمن. عملت هبة في البداية في السفارة المصرية في باريس، بفضل تدخلات والدتها التي كانت تتمتع بنفوذ واسع، ما مكنها من الوصول إلى بعض المعلومات الدبلوماسية الحساسة. ومع ذلك، لم يكن هذا كافيًا لإسرائيل التي كانت تطمح في الحصول على معلومات عسكرية استراتيجية.
هنا دخل النقيب فاروق الفقي إلى الصورة. كان الفقي ضابطًا في القوات المسلحة المصرية، وكانت لديه القدرة على الوصول إلى معلومات سرية للغاية تتعلق بالجيش المصري. حاولت هبة سليم إغواء الفقي باستخدام “ألاعيب الأنثى”، كما يصفها اللواء رشاد، واستطاعت بالفعل أن تكسب ثقته. طلبت منه المخابرات الإسرائيلية من خلال هبة أن يقدم لها معلومات عسكرية مقابل أموال طائلة كانت تحتفظ بها له في باريس.
نجحت هبة في خداع الفقي بشكل كامل، حيث أوهمته بأنها تعمل لصالح منظمة عالمية تهدف إلى منع الحروب في العالم، وأنها تجمع المعلومات العسكرية لمصلحة هذه المنظمة، وليس لإسرائيل. لم يكن الفقي يدرك أنه يقدم معلومات حساسة لعدو بلاده، وكان يعتقد أن ما يفعله قد يساعد في تحسين الأوضاع الدولية.
كيف تم كشف الجاسوسين؟
تُعد عملية اكتشاف النقيب فاروق الفقي واحدة من أبرز العمليات التي ساهمت في كشف شبكة التجسس التي كانت تديرها هبة سليم. يروي اللواء محمد رشاد أن نقطة التحول في القضية جاءت عندما تم رصد عنوان تراسل خاص بالفقي في باريس، حيث كان يستخدم الحبر السري لإرسال المعلومات. اكتشفت هيئة المعلومات والتقديرات في مصر أن الخطابات التي كانت ترسل إلى هذا العنوان تتضمن معلومات عسكرية غاية في السرية.
عندما تم القبض على الفقي، أقر بأنه كان يتعامل مع هبة سليم، وأنها هي من كانت تجنده لصالح المخابرات الإسرائيلية. من هنا بدأت عملية جمع المعلومات عن هبة سليم، التي كانت تعيش في باريس في ذلك الوقت، ولم يكن من السهل القبض عليها نظرًا لتواجدها خارج البلاد.
خطة القبض على هبة سليم: خدعة مرض والدها
نظرًا لتواجد هبة سليم في باريس، كان من الضروري وضع خطة محكمة لجلبها إلى مصر دون إثارة الشكوك. وهنا يأتي دور التعاون بين المخابرات المصرية والمخابرات الليبية. كان والد هبة يعمل معلمًا في ليبيا، وهكذا جاءت الفكرة باستخدام خدعة مرض والدها.
تم إقناع والد هبة بالتظاهر بالمرض لإقناع ابنته بالعودة إلى ليبيا. أخبرته المخابرات المصرية بأنها تتعاون مع منظمة فلسطينية تسعى لخطف طائرة، وأنهم يريدون منعها من التورط في هذا المخطط دون إثارة أي جدل دولي. وافق الوالد على الخطة، وتم نقله إلى المستشفى في ليبيا، حيث بدأ الدور الفعلي للمخابرات الليبية.
عندما طلبت هبة من المخابرات الإسرائيلية الإذن بالسفر إلى ليبيا لرؤية والدها، واجهت بعض المقاومة في البداية. ولكن بفضل إصرارها ولوحها بوقف التعاون، وافقوا على سفرها بشرط اتباع خطة دقيقة لضمان عدم متابعتها. وهكذا بدأت رحلتها من باريس إلى ليبيا عبر روما.
القبض على هبة سليم في ليبيا
عند وصولها إلى مطار طرابلس في ليبيا، كانت الأمور تسير وفقًا للخطة الموضوعة. كان في استقبالها فريق من المخابرات الليبية الذي أخبرها بأنه سينقلها إلى المستشفى لرؤية والدها. إلا أنها لم تكن تعلم أن السيارة التي استقلتها كانت تقودها إلى طائرة مصر للطيران التي كانت تنتظرها خصيصًا لنقلها إلى القاهرة.
تم القبض على هبة سليم وإحضارها إلى مصر، حيث خضعت لاستجواب مطول استمر لمدة 71 يومًا. كان الهدف من التحقيق معها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات حول نشاطاتها وتفاصيل زياراتها المتكررة إلى إسرائيل.
الاستجواب والاعترافات: “لست نادمة”
أثناء التحقيق، حاول المحققون المصريون استغلال كل فرصة لمعرفة ما إذا كانت هبة سليم تشعر بالندم على ما فعلته. ولكن كانت المفاجأة أنها لم تبد أي ندم. في الواقع، كما يروي اللواء محمد رشاد، كانت هبة تبدو متأكدة من موقفها، بل واعتبرت أن ما فعلته هو “واجب وطني” تجاه إسرائيل، التي كانت تعتبرها وطنًا مثاليًا لا يُهزم.
من بين ما قالته هبة سليم أثناء الاستجواب، كان ثلاث رسائل أساسية:
- لا تفكروا في الحرب مع إسرائيل لأنها دولة لا يمكن هزيمتها.
- لا تحاولوا عبور قناة السويس لأن ذلك سيكون بمثابة مقبرة للجيش المصري.
- كانت تعتبر أن علاقتها بضابط المخابرات الإسرائيلي كانت مهنية تمامًا، على عكس تجربتها في السفارة المصرية، حيث كانت تتعرض للتحرش من قبل بعض الموظفين.
تنفيذ الحكم: نهاية الجاسوسة
بعد استكمال التحقيقات، تقرر تنفيذ حكم الإعدام بحق هبة سليم. لم تتوقع هبة أن النهاية ستكون بهذا الشكل، خاصة وأنها كانت تعتقد حتى اللحظات الأخيرة أنها ستحصل على فرصة للهرب أو النجاة. ولكن مع استكمال التحقيقات وإدانتها بالتجسس لصالح دولة معادية، كان لا مفر من تنفيذ الحكم.
التداعيات وتأثير العملية على المخابرات المصرية
تُعد عملية القبض على هبة سليم واحدة من أبرز النجاحات التي حققتها المخابرات المصرية في ذلك الوقت. لم تكن هذه العملية مجرد إحباط لمؤامرة تجسس، بل كانت خطوة حاسمة في حماية الأمن القومي المصري خلال فترة حاسمة من الصراع مع إسرائيل. تمكنت المخابرات المصرية من إيقاف تسريب معلومات حساسة كانت تهدد قدرة القوات المسلحة على خوض الحرب، وبهذا فإن عملية هبة سليم كانت جزءًا من الاستعدادات المصرية التي ساهمت في نجاح حرب أكتوبر 1973.
دروس مستفادة: أهمية الدور الاستخباراتي
تكشف هذه القصة عن الدور الحيوي الذي تلعبه أجهزة المخابرات في حماية الأمن الوطني. لم يكن الأمر مجرد قضية تجسس بسيطة، بل كان يتعلق بمعلومات استراتيجية كان يمكن أن تؤثر بشكل كبير على مسار الحرب المقبلة. تعتبر عملية القبض على هبة سليم درسًا في كيفية التعامل مع قضايا التجسس بذكاء وحنكة، وكيفية التعاون الدولي بين الأجهزة الاستخباراتية لتحقيق الأهداف المشتركة.
الخاتمة: نهاية جاسوسة وبداية نصر
تظل قصة هبة سليم واحدة من أشهر قصص التجسس في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. من فتاة عادية إلى جاسوسة خطيرة، انتهى بها المطاف بالإعدام بعد أن أسهمت في تسريب معلومات حساسة. لكن في النهاية، كانت هذه العملية محطة فارقة في مسار المخابرات المصرية، التي استطاعت من خلالها تعزيز قدرتها على حماية أمن البلاد وتحقيق النصر في معركة مصيرية.