بقلم الصحفي عبدالرحمن العبادلة
في دروب الحياة، يمر الناس، بعضهم يترك بصمة عابرة، وآخرون يتركون أثراً لا يمحى. هكذا كان الشهيد المجاهد حسام عثمان عبدالرحيم العبادلة “أبو عثمان”، فارساً من طراز نادر، رجل بحجم وطن بأكمله. سخر حياته في خدمة وطنه وعائلته، مؤمناً بأن العطاء لا حدود له طالما كان الهدف هو الحق والحرية. حمل الراية طوال حياته، ومضى في طريق المقاومة غير آبه بالمخاطر، ورغم حرصه مثل الجميع على الحياة، إلا أن الاستشهاد كان دائماً حاضراً في مخيلته، في كل خطوة يخطوها نحو الحرية والكرامة.
حسام العبادلة لم يكن مجرد قائد ميداني أو مجاهد عسكري، بل كان رمزاً من رموز الشموخ والمقاومة، في وجه كل ظلم. كان إنساناً يشرق قلبه بالنور، وفي عينيه يتلألأ سمو نفسه العالية، ووجهه يعكس رضا لا يضاهيه رضا. الابتسامة التي كانت لا تفارق محياه لم تكن ابتسامة عابرة؛ كانت انعكاساً لإيمان عميق بقضيته، إيمان بأن المستقبل سيولد من رحم المعاناة، وأن الوطن يستحق أن نمنحه كل شيء، حتى حياتنا.
حياة مليئة بالعطاء والمقاومة
لم يكن حسام العبادلة مجرد رقم في قائمة الشهداء، بل كان روحاً تنبض بالعزة. لقد خدم وطنه بصدق وإخلاص، وكان نموذجاً للقائد الذي يسير في المقدمة، رافعاً راية الحق. لقد كان على قدر كبير من المسؤولية، وعلى قدر أكبر من التضحية. عاش مقاوماً، ومات مقاوماً، وخلّد اسمه في سجلات التاريخ بدمائه التي روت أرضه.
حسام العبادلة عاش حياة مليئة بالتحديات، لكنه لم يهرب منها يوماً. فقد كانت شجاعته لا تُقاس بالمعايير التقليدية، ففي حرب 2014، حين ضربت قوات الاحتلال منزله، رفض أن يغادر، رفض أن يترك أرضه، وكان له نفس الموقف في حرب 2023. لم يكن يخاف الموت، بل كان ينتظره وكأنه يعلم أن نهايته ستكون على هذه الأرض التي أحبها. وعندما جاءت طائرات الغدر الصهيونية في ذلك اليوم المظلم، ألقت قنبلة متفجرة على منزله، وسقط حسام، وارتفعت روحه إلى السماء، كما ترتفع أرواح الأبطال. لم يسقط وحده، فقد رافقته في رحلته الأخيرة زوجته أمل العبادلة، وابنه عمر، وكأن القدر أراد أن يجمعهم في لحظة الفداء الأخيرة.
ألم الفقد وفخر الشهادة
عندما أكتب عن حسام اليوم، تتزاحم الكلمات في صدري، وقلبي يغمره مزيج من الفخر والحزن. لم أكن أتوقع يوماً أنني سأكتب عنه بهذه الطريقة، فقد كان هو من يوثق لحظات حياتنا، دائماً كان يلتقط الصور لي، ويمازحني قائلاً: “سأنشر هذه الصور عندما تستشهد”. لم يكن يدور في خلدي أنه سيكون هو الخبر الذي سأكتبه، أنني سأكون الشاهد على رحيله. كيف يمكن لعقلي أن يستوعب أن الرجل الذي كان دائماً يصورني ويهتم بتفاصيل حياتي، أصبح هو الحدث، وأصبحت أنا من يكتب عن لحظاته الأخيرة؟
شجاعة لا تضاهى
لقد كان أبو عثمان مثالاً للشجاعة، لم يكن يخشى شيئاً، وكان يرفض الهروب من ميدان المعركة، سواء كان ذلك في حياته أو في بيته. في كل مرة يُطلب منه المغادرة حفاظاً على سلامته، كان يرفض، ويقول: “هذه أرضي، هذا بيتي، هنا سأبقى”. وعندما جاءت الطائرات المجرمة، كانت تعرف جيداً من تستهدف، فقد أرادت إسكات صوت الشجاعة، لكنها لم تفعل سوى تخليده للأبد.
اللحظة التي سقط فيها حسام لم تكن مجرد نهاية لحياة رجل، بل كانت شهادة على بطولاته التي خلدها الزمن. لقد قاتل بكل ما أوتي من قوة، ودافع عن وطنه حتى آخر نفس، ليترك وراءه إرثاً من التضحية، لا يستطيع أحد أن يمحو ذكراه. كيف يمكن أن يُنسى رجل كان في كل معركة رمزاً للشرف والمقاومة؟ كيف ننسى من وهب حياته كلها لقضيته؟
تاريخ من النضال والتضحية
حسام العبادلة لم يكن البطل الوحيد الذي أنجبته هذه الأرض، لكن بطولاته كانت دائماً في الصدارة. لقد شارك في العديد من العمليات النوعية التي أوجعت الاحتلال الإسرائيلي، وكان له دور بارز في تفجير واقتحام السفارات الأمريكية في بعض البلدان العربية، ودفع الثمن غالياً عندما وهب حياته ودمه لهذه القضية العادلة. كان يعي تماماً أن طريق النضال مليء بالأشواك، لكنه كان يمضي فيه بكل عزم، يروي أرضه بدمائه، ليزهر الوطن الذي حلم به دائماً.
لقد كان رجلاً بحجم دولة، بكل ما للكلمة من معنى. شجاعته، قوته، وإيمانه بوطنه جعلت منه قائداً لا يُنسى، ومناضلاً سيخلد التاريخ اسمه في صفحاته. كان شعلة من نور تضيء الطريق للآخرين، جسراً يعبرون عليه نحو الحرية. لقد كان هو الشمس التي تشرق في أوقات الظلام، ليعيد للناس الأمل حينما تشتد قسوة الاحتلال.
إرث من الوفاء والإنسانية
لا تكتمل صورة الشهيد حسام العبادلة دون الحديث عن إنسانيته العميقة. كان رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، بسيطاً قريباً من الجميع، يمد يده لكل محتاج، ويقف بجانب كل مظلوم. لم يكن يهتم بالمظاهر، بل كان يهتم بالجوهر، بالعطاء دون مقابل، وبالعمل الدؤوب دون انتظار شكر. كان يجمع بين الحزم والحنان، بين القوة والرحمة، فكيف يمكن لكلمات أن تصف رجلاً جمع في شخصه كل تلك الصفات النادرة؟
ختاماً: رجل بحجم وطن
عندما أقول إن حسام العبادلة كان رجلاً بحجم وطن، فأنا لا أبالغ. لقد كان أكبر من أن تحصره الكلمات، وأعظم من أن تختزله السطور. كان قائداً ميدانياً، ومثقفاً، وإنساناً في الوقت ذاته. لم يتوقف يوماً عن خدمة وطنه، ولم ينم يوماً إلا وقلبه مليء بحب فلسطين. لقد عاش ومات من أجلها، وستظل ذكراه محفورة في قلوبنا إلى الأبد.
حسام العبادلة هو فارس الحق والكلمة والموقف، رجل كرس حياته لخدمة قضيته، دون أن يسعى إلى الشهرة أو المجد الشخصي. لقد كان مناضلاً حقيقياً، يستمد قوته من إيمانه العميق بالله ووطنه. رجل بحجم وطن، وعظمة وطن.