بعد يومين يحتفل المصريون بالذكرى الحادية والخمسين لانتصارات السادس من أكتوبر عام 1973م، وهو حدث جلل وانتصار عظيم، يهتم به المصريون بشكل واضح وملحوظ، ومن أدلة ذلك أنه على الرغم من مرور كل هذه السنوات الطويلة على انقضائه إلا أنه يظل في مقدمة أبرز الأحداث في تاريخ المصريين الحديث والمعاصر، خاصة وأنه يُمثل لحظة فارقة في مسيرة تحرير الأرض المحتلة من قِبلالعدو المغتصب، كما أن الأوضاع السياسية الحالية التي تمر بها المنطقة تفرض اهتمامًا ببعض الخبرات والتجارب التاريخية، ومن ذلك مثلًا المراحل المختلفة التي مر بها الصراع العربي- الإسرائيلي، قبل عام 1948م وبعده.
وليس غريبًا أن تظل ذكرى الحرب عالقة في أذهان المصريين؛ عبر ندوات المراكز الثقافية والشبابية، وفي الكثير من أحاديثهم، حيث يتحدث عنها بفخر كل من شارك من العسكريين في أحداث الحرب وساهم في تحقيق النصر، وكل من عايش تلك الفترة أيضًا من المواطنين المدنيين، كما تم تخليد ذكرى تلك الحرب وبعض مجرياتها في عدد من الأبحاث والمؤلفات، وفي بعض الإبداعات الأدبية من روايات وقصص وأشعار، والأعمال الفنية من مسلسلات إذاعية وتليفزيونية ومسرحيات وأفلام سينمائية، وفي كل عام تهتم وسائل الإعلام بإعادة تقديم انتصارات أكتوبر وحكايات أبطاله لجمهور الإعلام، من خلال الكلمة المكتوبة والصورةالفوتوغرافية والمواد الفيلمية، ما جعل ذكرى أكتوبر قصة حية ونابضة بالحياة، تعيش في وجدان المصريين، من مختلف الفئات والأعمار، يتناقلونها من جيل إلى جيل.
ومن الأمور الطيبة أن احتفال المصريين بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة يتزامن كل عام مع الأيام الأولى من بدء العام الدراسي، في المدارس والجامعات، فتكون ذكرى أكتوبر هي الدرس الأول وبكر الأنشطة التي تُقدم للطلاب في العام الجديد، حيث تشهد المؤسسات التعليميةعددًا من الفعاليات التثقيفية والتنويرية مثل استضافة بعض أبطال النصر والمفكرين والخبراء العسكريين والاستراتيجيين، وتهتم بإعداد الندوات وإقامة معارض الصور وتنظيم الزيارات الميدانية لبانوراما أكتوبر والمتحف الحربي بقلعة صلاح الدين.
ويخبرنا التاريخ أن الفترة التي أعقبت نكسة 5 يونيو 1967م كانت صعبة على الجميع، من حيث آثارها العسكرية والحاجة إلى إعادة تسليح الجيش المصري، فضلًا عن تأثيراتها النفسية والاجتماعية..، إلا أنه سرعان ما نهض المصريون ليقوموا بحرب الاستنزاف، وقد شهدت الفترة بين 1967م و1973م مساهمة المصريين في إعادة تسليح الجيش، وتنظيم عدة زيارات للجبهة بغرض تعضيد الجنود والشد على أيديهم، وكثيرًا ما كان الجنود يسألون القادة “متى نقوم بالحرب لنسترد الأرض وتعود عزتنا وكرامتنا؟”، وعقب اندلاع الحرب يوم السبت السادس من أكتوبر اهتم كثيرون بزيارة المُصابين في المستشفيات والتبرع بالدم للجرحى.
وإذا كانت انتصارات أكتوبر المجيدة تحمل عددًا من الدروس المُستفادة، للأجيال الحالية التي لم تعاصر أحداثالحرب والنصر، فإنني أشير هنا إلى بعض تلك الدروس..
الدرس الأول: يظل انتصار الجيش المصري في حرب أكتوبر حدثًا مُهمًا ومُلهمًا، ومُبشرًا بأنه لا يوجد أمر صعب أو مستحيل، طالما نمتلك الحق، ومن خلال العزيمة والمثابرة والإرادة القوية والعمل الجاد فإننا نستطيع تجاوز الأزمات والتغلب على العقبات.
الدرس الثاني: أن الوحدة والاتحاد والتضامن والتعاون والتعاضد والتكاتف والتماسك المجتمعي والالتفاف حول هدف قومي مشترك بين المصريين، قيادة وشعبًا، كل هذه القيم والمعاني كانت سببًا أساسيًا ورئيسًا من أسباب النصر والحصول على الحق.
الدرس الثالث: أكدت حرب أكتوبر المجيدة خبرة تاريخية مشتركة وهي أن الكل مدعو للعمل من أجل الوطن، الجيش والشرطة، والأزهر والكنيسة، الرجل والمرأة، ومختلف فئات الشعب من الأطباء والمهندسين والفنانين والصحفيين والإعلاميين وغيرهم.
الدرس الرابع: اندلعت حرب أكتوبر من أجل تحقيق السلام العادل والشامل، الذي يقوم على احترام الحق وعدم التعدي على حقوق الآخرين، خاصة وأن الأرض “عرض” لا يمكن التنازل عنها أو التفريط في “شبر” واحد منها، وفي سبيل الحفاظ عليها فإنها استحقت الحرب، مثلما استحقتالسعي نحو تحقيق السلام، لكنه السلام القائم على عدم التفريط في الحقوق.
الدرس الخامس: قراءة التاريخ قراءة واعية ومتأنية، لمختلف الحقب والفترات، من حيث الوقائع والأحداث والرؤى والأفكار، لها فوائد كثيرة ومكاسب متنوعة، فهي تحقق التواصل بين الأجيال المُتعاقبة، وتبني الذاكرة الجمعية، وترسخ الهوية الوطنية، وتزيد من حالة الانتماء للوطن، وتنقل العِبر والدروس المُستفادة للأجيال الحالية والقادمة، لأن التاريخ في حقيقته ليس ماضيًا فحسب، إنما هو حاضر ومستقبل أيضًا.