عندما صاح ” الحكيم ” : عبرنا الهزيمة
بقلم : حمدي رزق
”أتستعيد مصر خاتمها من تحت الماء وتعيد تركيب الفيروزات الثلاث التي سقطت من خاتمها وهي تغسل يديها بماء قناة السويس في صيف عام 1967 .. تمسح ما تراكم عليه من صدأ وحشائش بحرية وتعيده إلى مكانه في المتحف المصري ، فيطمئن التاريخ على نفسه، وتطفو على مياه القمر زهرة( لوتس ) اسمها مصر”..
لم يكتب نزار قباني شعرا فى نصر أكتوبر، بل نثرا (مثل أعلاه) يقول فيه :” قبل السادس من أكتوبر 1973 كانت صورتي مشوشة وغائمة وقبيحة، كانت عيناي مغارتين تقشش فيهما الوطاويط والعناكب، وكان فمي خليجا مليئا بحطام المراكب الغارقة، وكانت علامتي الغارقة المسجلة في جواز سفري هي أنني أحمل علي جبيني ندبة عميقة اسمها حزيران ( يونيو ) ، أما عمري في جواز سفري القديم.. فقد كان مشطوبا لأن العالم كان يعتبرني بلا عمر.. واليوم (6 أكتوبر 1973)، يبدأ عمري.. واليوم فقط ذهبت إلي مديرية الأحوال المدنية، وأريتهم صك ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقال.. يتحرك مع المقاتلين في سيناء والجولان، فاعتبروني طفلا شرعيا. وسجلوني في دفتر مواليد الوطن”.
تظل مشكلة ( أدب الحرب ) لدى العرب غالبا أنه وقف عند حدود المشاعر الوطنية التي تعني تحرير الأرض، ولم يستطع أن يذهب إلى المستوى الإنساني بأن تكون الأحداث شديدة المحلية لكنها دالة على الأوضاع الإنسانية، كما يقول الناقد “د. محمد بدوي”، مشيرا إلى أن الأدب الغربي استطاع أن يبلغ جذور عالية في أدب بعد الحرب العالمية لأنها لم تكن حرباً وطنية لذلك نتجت عنها آلام بشرية هائلة شككت الأوروبيين في صحة الحرب والدعوة إليها، لذلك أنتجت أدباً وسينما شديدة الإنسانية، حتى حرب فيتنام أنتجت إبداعا مميزا جدا لأنها كانت احتجاجا على هذه الحرب.
أما حرب أكتوبر – يضيف د. بدوي – فكانت محصورة في المشكلة الوطنية وهي تحرير الأرض، وقد ذهب المجتمع والدولة ما بعد الحرب إلى اتجاه أخر تماما وهو الانفتاح، وكأنه يضع ستارا على حرب أكتوبر وانتشرت دعاوي تقول أنها أخر الحروب.
كان الوقت الظهيرة، واليوم هو السادس من أكتوبر 1973، يجلس “نجيب محفوظ” في بيته يقرأ في أحد الكتب.. دق جرس التليفون (الهاتف) وكان المتحدث هو “ثروت أباظة”، وبدون مقدمات صرخ قائلا: “عبرنا”، فلما استوضح محفوظ الأمر، قال له إن الجيش المصري عبر القنال، فقابل محفوظ كلامه بسخرية، فأقسم أباظة بأن الحرب قامت وطلب منه فتح الراديو على أي إذاعة.. ولأول مرة في حياته يسمع محفوظ الأخبار من المحطات الأجنبية التي كانت كلها تؤكد ما ذكره أباظة.
يحكي شيخ الروائيين في كتاب “نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته” الذي أعده الناقد الراحل “رجاء النقاش”، كيف كان انفعاله بالحرب قائلا “وجدت نفسي في حالة ذهول غريبة. لم تكن تهمني نتيجة الحرب العسكرية بقدر ما تهمني نتائجها النفسية، وكيف أنها يمكن أن تنقلنا من حالة كنا نشعر فيها بمنتهى اليأس والانكسار، إلى حالة مضادة نشعر فيها بالثقة والعزة والكرامة.
ولذلك فإنني أعتبر معركة أكتوبر هي الحرب التي أنقذت الروح العربية من الهزيمة، وطوال أيام المعركة كان لديّ إحساس غريب بأن أي تلاحم بين الجيشين المصري والإسرائيلي سنكون فيه المنتصرين والمكتسحين”..
ولم يكتب محفوظ أعمالاً أدبية عن الحرب بل مقالات قصيرة متتابعة بعنوان “دروس أكتوبر”.
أما “توفيق الحكيم” فقد قال مقولته التي أصبحت رمزا للعبور وهي “عبرنا الهزيمة” فكتب يقول: “عبرنا الهزيمة بعبورنا إلي سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك، فإن الأهم هي الوثبة، وهي المعني. أن مصر هي دائما مصر، تحسبها الدنيا قد نامت ولكن روحها لا تنام. وإذا هجعت قليلا فإن لها هبه ولها زمجرة، ثم قيام، وقد هبت مصر قليلا وزمجرت، ليدرك العالم ما تستطيع أن تفعل في لحظة من اللحظات”.
تناولت الكثير من الأعمال حرب أكتوبر منها “الحرب في بر مصر” ليوسف القعيد، “الرفاعي” لجمال الغيطاني، “نوبة رجوع” لمحمود الورداني، “أنشودة الأيام الآتية” لمحمد عبد الله الهادي، “السمان يهاجر شرقاً” للسيد نجم، “شجر الصبار” لمعصوم مرزوق، “رجال وشظايا” لسمير الفيل، “الخريف الدامي” لمحمد النحاس، “سبع حبات من الرمال” للسيد الجندي، “يوميات مقاتل قديم” للسيد عبد العزيز نجم، “سنوات الحب والموت” لبهي الدين عوض، “يوميات على جدار الصمت” لمحمد السيد سالم، “عندما تشتعل النجوم” لفوزي البارودي، “حائط الصواريخ” لعادل حسني، “رأس العش” لسعد وهبة، “وتحطمت الطائرات عند الظهر” لأحمد بهاء الدين، بالإضافة إلى المئات من القصص القصيرة.
ومن العرب كتب حنا مينا “المرصد”، و”رفقة السلاح والقدر” لمبارك ربيع، “من يذكر تلك الأيام” لحنا مينا ونجاح العطار، “البيت والدخان” للسوري يحيي خضور.
يصعب حصر الأعمال التي قدمت عن حرب أكتوبر، لكن يلاحظ أن معظم من كتب عن أكتوبر كانوا من الشباب الجدد حينها الذين عايشوا الحرب، بينما لم يكتب الأدباء الكبار حينها أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما، غير مجموعة من المقالات ولم يعالجوها إبداعيا لأنهم كانوا بعيدين عن أرض المعركة.
مقارنة غير متكافئة مازالت تعقد بين الأعمال التي تناولت حرب أكتوبر، وبين عدد من الأعمال العالمية التي تناولت الحروب مثل “الحرب والسلام” لتولستوي، “وداعا للسلاح” لهيمنجواي، “الدون الهادئ” لشولوخوف ومالرو “الأمل” وبريخت “الأجراء” وبيتر فايس “وحش أنجولا” وغيرها.. مقارنات ليست في صالح العبور العظيم ، لأن العبور من العظمة لا تسعها الأمال الأدبية .. مقصرون فى حق العبور آلعظيم ولا نزال !!