برنامج “الدحيح”، الذي يقدمه أحمد الغندور، لم يعد مجرد عرض ترفيهي يُبسط المعلومات، بل تحول إلى رمز لمرحلة إعلامية جديدة تعتمد على التبسيط المفرط في تقديم المحتوى العلمي والفكري. في هذا المقال، سنناقش تأثير هذا البرنامج على المحتوى الإعلامي والتربوي في المجتمع العربي، خاصة في ظل التحديات التي فرضتها المرحلة الراهنة. فبينما يسعى “الدحيح” إلى تقديم المعلومات بشكل مبسط، تبرز تساؤلات حول فعالية هذا الأسلوب في تلبية احتياجات الأجيال الشابة، والتي تتطلب مناهج تربوية وإعلامية أكثر تعمقًا وتوازنًا.
العنوان “الدحيح” قد يبدو طريفًا وسهلًا في البداية، لكنه يحمل في طياته دلالات نقدية مهمة. فالبرنامج، من خلال عنوانه، يُكرس لمفهوم “الثرثرة” أو “المكلمة”، حيث يتم تقديم المعلومات بسرعة وبأسلوب ساخر قد يُفقد المضمون العمق المطلوب. هذه الظاهرة ليست مقتصرة على “الدحيح” فحسب، بل هي جزء من حالة إعلامية أوسع تعتمد على تبسيط المعرفة لدرجة تجعلها سطحية وغير قادرة على إحداث تأثير حقيقي. في عصر يشهد تغييرات جذرية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، مثل ثورة 30 يونيو، يصبح من الضروري إعادة النظر في كيفية تقديم المحتوى الإعلامي، وعدم الاكتفاء بالتبسيط الذي قد يُضيع الرسائل الأعمق.
كمتابع للبرنامج، لاحظت شخصيًا تكرار نفس النمط في العديد من الحلقات: تقديم معلومات سطحية بشكل ترفيهي وساخر. وفي حين أن الهدف قد يكون جذب شريحة واسعة من المشاهدين، إلا أن النتيجة قد تكون عكسية. ففي النهاية، يجد المشاهد نفسه أمام معلومات سريعة وسطحية، دون دفعه إلى التفكير النقدي أو البحث عن المصادر الأكثر عمقًا. هذا الأسلوب، رغم شعبيته، قد يُضعف من قدرة الجمهور على التعامل مع المعلومات بشكل أكثر تحليلاً، ويؤدي إلى الاستهلاك السلبي للمعرفة.
من هنا، تظهر المعضلة الكبرى التي يمثلها “الدحيح” وغيره من البرامج المشابهة: اعتماد الأجيال الشابة على المحتويات المُبسطة بدلاً من الخوض في البحث والدراسة العميقة. يشبه هذا الاعتماد على “الملخصات” التي يلجأ إليها بعض الطلاب كبديل عن القراءة الكاملة، حيث تُقدم هذه الملخصات صورة غير مكتملة وغير دقيقة عن الموضوعات المعروضة. والنتيجة هي جيل يعتمد على التلقين ويعاني من نقص في مهارات التفكير النقدي والإبداعي.
إذا نظرنا بعمق إلى تأثيرات هذه الظاهرة، سنجد أنها جزء من حالة فكرية أوسع بدأت تتشكل منذ أحداث يناير 2011. هذه الأحداث أدت إلى خلل في البنية الفكرية للمجتمع، وبرامج مثل “الدحيح” تُعتبر امتدادًا لهذا الخلل. فبدلاً من دفع الجمهور نحو التفكير النقدي والتحليل العميق، أصبحت هذه البرامج تُسهم في تعميق حالة التشتت الفكري. وهذا ما يتطلب منا التوقف عن التعامل مع مثل هذه الظواهر كأمر طبيعي، والبدء في التفكير بجدية في كيفية إعادة بناء منظومة إعلامية وتربوية تُشجع على البحث والابتكار.
في نهاية المطاف، يجب أن نكون حذرين في تقييم البرامج التي تقدم المعرفة بشكل مبسط، لأن التبسيط قد يتحول في بعض الأحيان إلى تسطيح. برنامج “الدحيح” وغيره من المحتويات المشابهة قد يكون لها أثر إيجابي في جذب الانتباه إلى العلوم والمعلومات، ولكنها لا تكفي لبناء أجيال قادرة على مواجهة تحديات العصر. المطلوب اليوم هو تقديم محتوى إعلامي يعزز من التفكير النقدي والبحث العميق، ويُسهم في تطوير قدرة الأفراد على التحليل والاستنتاج بدلاً من الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمعلومات.