اليوم بدأ عرض الجزء الثاني من فيلم “جوكر” في سينمات مصر، الفيلم الذي أثار جدلاً واسعاً منذ صدور جزئه الأول، بطولة خواكين فينكس وليدي جاجا. الجزء الثاني يستكمل رحلة الشخص الذي تحول من إنسان مهمش مريض إلى رمز ثوري يعكس الصراعات الاجتماعية العميقة. في هذا النقد، لن أحرق أحداث الفيلم، لكنني سأقدم قراءة نقدية متعمقة لرمزياته، وأثره الثقافي والفني، ولماذا يعتبر من أكثر الأفلام تعقيدًا وعمقًا في السرد السينمائي المعاصر.
قبل الغوص في أحداث الجزء الثاني، من المهم العودة إلى الجزء الأول لفهم الخلفية الأساسية التي تبني عليها هذه السلسلة. الفيلم يعتمد على تقديم قصة “آرثر فليك”، الرجل الذي يعيش في مدينة جوثام الخيالية. جوثام ليست مجرد مدينة مظلمة ومعزولة، بل هي انعكاس رمزي للعالم الذي نعيش فيه، مليء بالتناقضات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. المدينة تمثل مكانًا يتقاطع فيه الخير والشر، الحقائق والخيالات. مثلما أن المدينة نفسها مصنوعة من مزيج من الصراعات التي تظهر على السطح في صورة “خيرية مزعومة”، تمثلها الشخصيات المؤثرة مثل عمدة المدينة ووريثه، إلا أن القصة تكشف شيئاً أعمق؛ أن هذه الخيرية ليست إلا وهماً يلمع على السطح بينما تظل الصراعات الحقيقية مختفية في الظلال.
الفيلم يطرح مجموعة من التساؤلات حول الشر: كيف يولد الشر داخل الإنسان؟ وكيف نغذيه عبر الصمت أو التجاهل؟ ما الذي يصنع إنسانًا عاديًا يتحول إلى رمز عنف؟ هذه الأسئلة ليست جديدة، لكنها تقدم هنا بطريقة مركبة، تجعل المشاهد يفكر في دوره الشخصي وفي المجتمع الذي يعيش فيه.
*الجزء الأول *
في الجزء الأول، نتعرف على آرثر فليك كشخصية هامشية في المجتمع. إنه يعاني من اضطرابات نفسية تجعله يضحك بشكل لا إرادي في مواقف غير مناسبة، وهذا الضحك المستمر لا ينقل السعادة، بل يعكس ألمًا داخليًا عميقًا. هذا الاضطراب هو بمثابة رمز لوضعه النفسي والاجتماعي، فهو يعيش في عالم لا يفهمه ولا يتقبل حالته. من اللحظة الأولى، يشعر المشاهد بالتعاطف مع آرثر، فهو يحاول أن يجد مكانًا له في مجتمع يتجاهله تمامًا، لكنه يتعرض باستمرار للعنف والاضطهاد، سواء من أفراد المجتمع أو من النظام.
التحول الذي يحدث في شخصية آرثر هو نتيجة مباشرة للاضطهاد الذي يواجهه. تبدأ رحلة التحول عندما يجد نفسه غير قادر على تحمل هذا الضغط، فينقلب إلى العنف كرد فعل لما تعرض له من قسوة. هنا يطرح الفيلم فكرة فلسفية عميقة: كيف يمكن أن يحولنا العالم الذي نعيش فيه إلى ما نخشاه؟ هل نحن ضحايا للمجتمع الذي يحيط بنا أم أننا مسؤولون عن أفعالنا مهما كانت الظروف؟ الفيلم لا يقدم إجابة بسيطة، بل يترك هذه الأسئلة مفتوحة، مما يجعله أكثر تعقيدًا وتأثيرًا.
الرمزية والدلالات في الفيلم
الفيلم يعج بالرمزيات التي تجعل من كل مشهد تقريبًا تجربة فلسفية عميقة. واحدة من أبرز هذه الرمزيات هي الساعة التي تظهر في الخلفية بتوقيت ثابت، مما يعكس فكرة الزمن الجامد، الذي يعبر عن أن الأمور لا تتغير حقًا، سواء في ماضي آرثر أو حاضره أو مستقبله. هذا التوقيت الثابت يمكن تفسيره أيضًا كإشارة إلى الحتمية؛ أن حياة آرثر كانت محكومة منذ البداية بالفشل والانهيار.
رمزية أخرى قوية تظهر من خلال العلاقة بين آرثر وأصحاب البشرة السمراء الذين يظهرون في الفيلم. هؤلاء الأشخاص ليسوا مجرد شخصيات هامشية، بل يمثلون الفئات المهمشة التي تتعرض للاضطهاد مثل آرثر. بدءًا من الطفل الصغير الذي يضحك له ببراءة، مرورًا بالطبيبة المعالجة، وصولًا إلى الصديقة المتخيلة، كل هؤلاء يشكلون جزءًا من العالم الذي يتعامل معه آرثر. في المقابل، كل مسببي مأساته هم من البيض المثاليين بمقاييس المجتمع العنصري. الفيلم هنا يعكس نظرة عميقة إلى الانقسامات الطبقية والعنصرية التي تحكم المجتمع.
واحدة من أقوى لحظات الفيلم تأتي عندما يقتل آرثر صديقه السابق، بينما يترك القزم الوحيد الذي كان يعامله بإنسانية يذهب بسلام. هذا المشهد يعكس معايير آرثر الخاصة للعدالة؛ فهو لا يهاجم كل من يراه، بل يميز بين من يستحق العقاب ومن لا يستحق. ربما يمثل القزم الشخص الذي كان آرثر يمكن أن يكونه: إنسان مرفوض لكن ليس بالضرورة شريرًا.
السلم الطويل
رمزية السلم في الفيلم تظهر في أكثر من مشهد. في البداية، نرى آرثر يصعد السلم منهكًا أو هاربًا، يعاني من ضعفه وعجزه عن مواجهة العالم. هذا السلم الطويل هو رمز للطريق الشاق الذي عليه أن يسلكه في محاولة للخروج من حالة الاضطهاد التي يعاني منها. ولكن عندما يتحول آرثر إلى “جوكر”، نراه ينزل من نفس السلم منتصرًا، وراقصًا بحركة مليئة بالثقة والنشوة. هذا التحول بين الصعود الضعيف والنزول المنتصر هو تصوير سينمائي بارع لتحول شخصية آرثر من الضحية إلى الجاني، ومن الشخص المضطهد إلى الثائر الذي ينتقم من العالم.
الصلة بين آرثر وأخيه المزيف
واحدة من أكثر اللحظات إثارة هي المواجهة بين آرثر وأخيه المتخيل المزيف، الذي سيصبح باتمان لاحقًا. آرثر يرتدي نفس الزي الذي يرتديه أخوه، مما يخلق تطابقًا بصريًا بين الاثنين. هذا التطابق ليس صدفة، بل يعكس فكرة أن آرثر وباتمان ليسا مختلفين بقدر ما يظهران؛ كلاهما يعبران عن نتيجتين مختلفتين لظروف اجتماعية متناقضة. آرثر نشأ في الفقر والإهمال، بينما باتمان نشأ في الثراء والامتيازات. الفكرة هنا أن الفارق بين البطل والشرير ليس فارقًا في الجوهر، بل في الظروف التي شكّلت شخصياتهم.
الجزء الثاني
في الجزء الثاني، نشهد تطورًا جديدًا في شخصية الجوكر حيث يلتقي “بنصفه الآخر”. هذه الشخصية الجديدة تقدم مزيدًا من التعقيد على شخصية آرثر، وتكشف عن جوانب أخرى من نفسه التي ربما لم نرها في الجزء الأول. في هذا الجزء، يصبح الجوكر أكثر وعيًا بقوته وتأثيره، لكنه أيضًا يصبح أكثر انغماسًا في جنونه وفوضويته.
*خاتمة *
فيلم “جوكر” ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو تجربة فلسفية ونفسية تدعو المشاهد للتفكير في قضايا المجتمع والإنسانية. إنه فيلم عن الإنسان في مواجهته للعالم، عن الظلم الاجتماعي والاضطرابات النفسية، وعن كيفية تحول الإنسان إلى رمز للشر نتيجة الضغوط التي يواجهها. الجزء الثاني يضيف أبعادًا جديدة لهذه القصة المعقدة، مما يجعله فيلمًا يستحق المشاهدة أكثر من مرة لفهم كل ما يخبئه من رموز ومعانٍ عميقة.
في النهاية، “جوكر” هو تحفة فنية تجمع بين السرد العميق، والإخراج المبدع، والتمثيل الاستثنائي. إنه ليس مجرد فيلم ترفيهي، بل هو درس في كيفية صناعة عمل فني يعبر عن قضايا إنسانية شائكة ومعقدة.