قصيدة «قارئة الفنجان» لطيب الذكر «نزار قبانى» بصوت العندليب الأسمر «عبدالحليم حافظ»، تصلح خلفية هذا المقال.
المقطع الذى يتألم فيه العندليب من أعماقه على وقع كلمات «نزار»: «مقدورك أن تمضى أبدًا فى بحر الحب بغير قلوع/ وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع/ مقدورك أن تبقى مسجونًا بين الماء وبين النار..».
هكذا حال الدكتور «يوسف بطرس غالى»، يبدو أنه لم يطالع فنجانه جيدًا، غادر القاهرة بعد ثورة يناير، متهمًا، يلفه الحزن، وظل الحزن ملازمًا له اثنى عشر عامًا تطارده الاتهامات حتى تلقى حكم البراءة أخيرًا.
البراءة لا تكفى جماعة الشرف الرفيع، لا تروى غلتهم الشبقة لإشانة سمعة البشر، لابد من جلد الدكتور يوسف مجددًا، واتهامه على قديمه، وحرمانه من أبسط حقوقه الوطنية إجحافًا.
الاستهداف مجددًا، لا علاقة له بالشرف، فحسب قطع الطريق على إمكانية الاستفادة من خبراته الاقتصادية استباقًا، مقدر ومكتوب أن يبقى أبدًا مسجونًا بين الماء وبين النار.
لا يستقيم قضائيًّا ولا إنسانيًّا عقاب المجنى عليه مرتين بنفس الجرم، ما بالك والمتهم برىء بصك من أعلى درجات القضاء، ها هو يعاقب على براءته مجددًا مرتين، قبل حكم المحكمة وبعدها.
يبدو أن أخبار البراءة لا تعنى أحدًا، عادة لا يحفلون بالبراءة، ولا يطالعون الحيثيات، يمعنون فى الاتهامات، ونصب المشانق، المدعون بالحق الوطنى يصلبون الدكتور يوسف على حوائطهم الإلكترونية مجددًا.
ثابت وطنيًّا، اثنا عشر عامًا قضاها الدكتور يوسف بطرس فى الغربة، ولم يصدر عنه حرف يجرح بلاده، ولم يَخُنْ بلاده فى المضاجع الخارجية، وصمت على مضض، ظل على العهد «رجل دولة» يَعِى دوره فى ظهر وطنه داعمًا حتى بقلبه.. وهذا أضعف الإيمان.
لم يكن يومًا عبئًا على وطنه، ولا طاف بقضيته على المنظمات الحقوقية الدولية، ولا زعم مظلومية، قرر أن يحارب معركته قضائيًّا أمام قضاء وطنه العادل، درجة درجة حتى ظفر ببراءة مستحقة فى نهاية المطاف.
كفانى رجل الأعمال «نجيب ساويرس» مؤنة الدفاع عن الدكتور يوسف بطرس غالى العائد من غياب طال. كتب ساويرس على حسابه الشخصى على منصة «X» تعليقًا على قرار ضم الوزير يوسف بطرس إلى التشكيلة الجديدة للمجلس التخصصى للتنمية الاقتصادية التابع لرئاسة الجمهورية «قرار صائب.. يوسف ضليع فى الاقتصاد ونحن فى أزمة، ممكن يساعد جدًّا».
هذا على المستوى العملى، وعلى المستوى الشخصى دافع «ساويرس» بشراسة عن سمعة الوزير يوسف: «عمره ما سرق.. افتراء وكذب، وتمت تبرئته من القضاء المصرى بعد سنين من المعاناة».
الدكتور يوسف يعود إلى وطنه مبرَّأً من الاتهامات بعد اغتراب دام طويلًا، رافعًا رأسه، مودعًا أحزانه التى عكست لونها على ملامحه، ولوّنت شعره فاشتعل الرأس شيبًا.
لم يظفر بيوم راحة فى غربته، آن له أن يرتاح، صحيح الدكتور يوسف عاش خارج البلاد بجسده، ولكن روحه ظلت هنا، ومثله مثل السمك النيلى لا يعيش إلا فى مياه النيل العذبة، حتى نعمة العيش فى رحاب الوطن يضنون بها عليه.
ربما الدكتور يوسف بطرس غالى كان آخر مَن تحصلوا على البراءة من رجالات عصر مبارك، هبت عليهم عاصفة من البلاغات الكيدية إبان يناير ٢٠١١، عاصفة هوجاء، لفحت الوجوه جميعًا ببلاغات عقورة، أمسكت كالنار بثياب الجميع إلا مَن رحم ربى.