في عام 1991، كان المنتج الفني حسين القلا أمام تحدٍ كبير في صناعة السينما المصرية. بعدما قرر الدخول في مغامرة فنية ثقيلة عبر إنتاج فيلمين من النوع الذي يغلب عليه الطابع الفني الراقي على حساب الجانب التجاري، وهما “الكيت كات” للمخرج داوود عبد السيد و”المواطن مصري” للمخرج صلاح أبو سيف، كان يدرك أن هذين الفيلمين، على الرغم من أهميتهما الفنية، قد لا يحققان النجاح التجاري المتوقع. لذلك، قرر القلا اتخاذ قرار استراتيجي بإنتاج فيلم تجاري معهما يعوض الخسائر المحتملة، فوقع اختياره على نجمة الجماهير في ذلك الوقت، نادية الجندي، التي كانت تتربع على عرش الإيرادات في السينما المصرية بجانب النجم عادل إمام.
جاء الفيلم الذي اختاره القلا لتعويض الخسائر بعنوان “رغبة متوحشة”، وهو فيلم اجتماعي يحمل لمسة تجارية مغلفة بالدراما العاطفية. وكانت نادية الجندي في تلك الفترة هي الضمانة الأكيدة لتحقيق النجاح التجاري لأي فيلم تشارك فيه، حيث كانت الأفلام التي تتصدر بطولتها تجذب الملايين إلى دور العرض. بلغت تكلفة إنتاج الفيلم حوالي 5 ملايين جنيه، وهو رقم ضخم جدًا آنذاك، وكان الهدف من وراء هذا الإنفاق أن يحقق الفيلم إيرادات مضاعفة.
تم إطلاق “رغبة متوحشة” في يونيو 1991، في ذروة الموسم الصيفي، وهو الموسم الذي يشهد إقبالًا جماهيريًا كبيرًا على السينما، ما يجعل توقيت عرضه مثاليًا. وبعد شهر واحد، في يوليو 1991، عُرض فيلم “المواطن مصري”، وهو فيلم درامي ملحمي من إخراج صلاح أبو سيف، وقد مثّل فيه النجم العالمي عمر الشريف دور العمدة الفلاحي لأول مرة في تاريخه السينمائي، وهي نقلة نوعية لشخصية عالمية مثل الشريف، الذي اعتاد جمهوره على رؤيته في أفلام هوليوودية.
أما “الكيت كات”، فقد تقرر عرضه في سبتمبر 1991، وهو توقيت غير ملائم تمامًا لعرض الأفلام السينمائية. فمع نهاية الموسم الصيفي وبداية العام الدراسي، يقل الإقبال على دور العرض، وغالبًا ما يتم عرض الأفلام في هذه الفترة إما لتحصيل إيرادات ضئيلة أو كنوع من عرض الأفلام التي لا يتوقع لها النجاح التجاري الكبير. هذا الوضع وضع “الكيت كات” في موقف صعب، حيث لم يكن متوقعًا أن يحقق نجاحًا كبيرًا في ظل هذه الظروف.
رهانات القلا: بين الفني والتجاري
على الرغم من الرهان الكبير على فيلم “رغبة متوحشة”، حيث كانت نادية الجندي رمزًا للأفلام التي تجذب الجماهير، كان “المواطن مصري” يمثل رهانًا مختلفًا؛ فيلم يعتمد على الحضور الأسطوري لعمر الشريف وتاريخه السينمائي العالمي. توقعت إدارة الإنتاج أن يأتي الجمهور لمشاهدة الشريف في دوره الجديد كعمدة فلاح مصري، وهو تحدٍ أدائي غير مسبوق لنجم اعتاد العمل في أجواء السينما العالمية.
لكن المفاجأة الكبرى جاءت من “الكيت كات”، وهو الفيلم الذي كان الأقل توقعًا لتحقيق نجاح جماهيري أو حتى تجاري. الفيلم الذي أخرجه داوود عبد السيد، والمأخوذ عن رواية “مالك الحزين” للكاتب إبراهيم أصلان، تناول قصة معقدة عن حي شعبي في مصر وحياة رجل ضرير، يجسد دوره ببراعة محمود عبد العزيز. تمكن عبد العزيز من تقديم دور حافل بالتناقضات، بين مرارة الواقع وكوميديا الحياة اليومية، وقد أبدع في مشاهد عدة، من بينها المشهد الشهير وهو يغني “يلا بينا تعالوا”، الذي أصبح أيقونة في السينما المصرية.
المفاجأة: نجاح “الكيت كات”
على الرغم من توقيت عرض “الكيت كات” السيء، حقق الفيلم نجاحًا غير متوقع، وتوافد الجمهور على مشاهدته مرارًا وتكرارًا. أصبح الفيلم حديث الشارع المصري، واستحوذ على إعجاب الجمهور قبل النقاد. الجمهور أحب البساطة والعمق في القصة، والأداء المميز لمحمود عبد العزيز، الذي نجح في تقديم شخصية الفقير الذي يواجه الحياة بصبر وفكاهة، في حين أن الكوميديا الساخرة التي اعتمد عليها الفيلم كانت جديدة ومميزة في ذلك الوقت.
ولم يكن نجاح “الكيت كات” جماهيريًا فقط، بل حصد أيضًا إشادات نقدية واسعة. حصل محمود عبد العزيز على جائزة أفضل ممثل في مهرجان الإسكندرية السينمائي عن دوره في الفيلم، كما دخل الفيلم في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، ليحتل المرتبة 24.
الفشل غير المتوقع لـ”رغبة متوحشة”
في المقابل، جاء الفشل الأكبر من فيلم “رغبة متوحشة”، الذي لم يحقق حتى ربع تكلفته الإنتاجية. كانت الجماهير تتوقع الكثير من نادية الجندي، لكن الفيلم لم يتمكن من تحقيق النجاح المتوقع على مستوى الإيرادات، ما شكل صدمة للمنتج حسين القلا. على الرغم من أن الفيلم استهدف الجمهور العريض الذي يعشق نادية الجندي وأفلامها السابقة، إلا أنه لم يجد الصدى المطلوب، سواء من النقاد أو الجمهور.
الإرث السينمائي
في النهاية، يعكس هذا الفصل من تاريخ السينما المصرية أهمية التوازن بين الفن والتجارة في صناعة الأفلام. بينما سعى القلا لتعويض خسائره بفيلم تجاري، جاءت المفاجأة من العمل الفني الثقيل “الكيت كات”، الذي أثبت أن الأفلام الجيدة يمكن أن تجد جمهورها، حتى في أصعب الظروف.