في احتفالية أسقفية الشباب بمئوية ميلاد قداسة البابا شنودة الثالث، والذى تذكره مصر كلها في احتفالات كثيرة بمصر والمهجر، نذكر منها احتفالية المركز الثقافى الأرثوذكسى برئاسة نيافة الأنبا إرميا، والذى حضره عدد كبير من رموز مصر مسلميها وأقباطها، من آباء مطارنة وأساقفة، وأصحاب الفضيلة، والشعب القبطى، بمسرح المنار. وفى احتفال أسقفية الشباب مساء اليوم، نتذكر جانبًا بسيطًا من جوانب شخصية قداسته المتعددة الجوانب، والتى منها أنه كان يجمع في شخصيته بين بعض الفضائل، التي تبدو متناقضة ومختلفة، بينما هي متكاملة ومتجانسة، وكانت كل فضيلة لديه لها وقت، ولها ميعاد، ولها موقف. ومن هذه الفضائل التي أعطاها الله لقداسته، والتى تبدو متناقضة ولكنها متكاملة، نذكر منها: 1- القوة والرقة: فقداسة البابا نراه كالجبل، فيه قوة إيمان وصلابة مواقف وقوة قلب، يقف أمام الأقوياء مثل الأسد سواء كانوا رؤساء أو مجرد متكبرين. وقد علمنا قداسته أنه في مواجهة المشاكل والتجارب، يجب أن نجعلها خارجنا وليس داخلنا، أي أن نتعامل معها من الخارج ولا تدخل إلى داخلنا.. فتنغص حياتنا. وبالفعل نراه يفعل كل ذلك، لأنه يعلم ماذا يفعل، ومن يخدم، وكيف يفكر!، فنرى قوته في مواقف عديدة جدًا، ومع ذلك نجد قداسته يتعامل في منتهى الرقة مع طفل أو شخص لديه مشكلة، فيجمع بين الحنان الفائق والمذهل، والرقة والعذوبة، لا نتصورها أمام هذا العملاق الذي يقال عنه إن «أَسَاسهُ فِى الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ» (مز 1:87). فقد يبدو أحيانًا أن القوة تتناقض مع الرقة ولكنهما فضيلتان متكاملتان مع بعضهما البعض. 2- التأمل والعمل: فرغم تواجد قداسته في الكاتدرائية وسط الزحام والمسؤوليات والانشغالات والاتصالات مع العالم كله، إلا أنه قادر أن يجلس داخل غرفة ويكتب المقالات بتركيز شديد جدًا، ويؤلف كتبًا وبرامج أخرى، ويصدر لنا أكثر من مائة كتاب، ويقرأ بتركيز وبعمق، ويتأمل ويسبح بخياله الشاعرى، بروح أدبية فائقة، وبروح رهبانية عظيمة. وفى نفس الوقت الذي يحب فيه قداسته التأمل، إلا أنه في العمل لا يقدر أن يسبقه أحد!، وهنا أذكركم بشىء كتبه قداسته في مجلة الكرازة، فتوقفنا عنده ونتذكره جيدًا، وهو مقال بعنوان (قال في شيخوخته) ويقول فيه: «لما كنت شابًا كنت أعمل ولا أتعب، ولما كبرت صرت أعمل وأتعب، وفى الشيخوخة صرت أتعب دون أن أعمل» هل يوافق أحد على هذا؟!..
لا بالطبع لأن قداسة البابا في حياة العمل كان مذهلًا، فهو يعمل في كل وقت، يعمل ولا يهدأ، صباحًا ومساءً وفى منتصف الليل.. إنها قوة جبارة من ربنا، تسند هذا الجسد، ولكن لا شك أن هذا هو القلب الأمين لربنا ينظر إليه في تعجب.. هذا هو الذي يعمله في تفان دون أن يتعب، حتى وإن تعب يستمر يعمل على الدوام!. 3- الوحدة والانتشار: لم يكن في نية قداسة البابا إلا حياة الوحدة فقط داخل المغارة، ودون أن يرى إنسانًا، فعاش هذه الفضيلة- فضيلة الوحدة- في عمق، يبدو أنه لن يتكرر، في وحدة كاملة مع ربنا داخل المغارة، وفى نفس الحين حينما دعاه الله أعطاه ليجلس على كرسى مار مرقس الرسول، نرى أن الله أعطاه الاحتمال كى يكون شخصية جماهيرية، على مستوى العالم كله، وليس على مستوى الشرق الأوسط فقط. وأنا لا أنسى أن قداسته عندما كان يزور كنائس المهجر، كان مرة بعد القداس ومناولة الآلاف جلس مرهقًا، وكان يوزع ميداليات ويسلم على الشعب، وعلى الرغم من شدة تعبه وعدم مقدرته على رفع يديه من الإجهاد، ولكنه كان يصمد قدام هذه الآلاف من الناس. وقداسته هو صاحب الكلمة الشهيرة: «نحن ينبغى أن نتعب ليستريح الناس». 4- الحكمة والبساطة: أعطى الله لقداسته الحكمة والنظرة البعيدة جدًا. فلن ننس حكمته في التعامل مع الملف القبطى والمواقف الوطنية التي شهد لها الجميع، في كل قضايا الوطن، حتى دُعى بالحقيقة «بابا العرب». ومع تلك الحكمة الجبارة، نجد هناك البساطة الشديدة جدًا، فكان قداسته مرحًا جدًا وبسيطًا جدًا مع الشباب والأطفال، يشجعهم لكى يتحدثوا ويستمع لمشكلاتهم، كما أنه كان يتعامل برقة مع أخوة الرب، فإذا أتت إليه إنسانة فقيرة نجده يسأل عن احتياجاتها، ويسد تلك الاحتياجات مهتما بأدق تفاصيلها، من تنجيد وملابس وغرفة النوم، ومن مصروفات لها ولأسرتها، ويتعجب الناس كيف أن هذا البابا العظيم يجلس مع إنسانة بسيطة هكذا. 5- الحـزم والحـب: فسيدنا البابا كان لا يترك أدق وأصغر الأمور التي تحدث خطأ، إذ كان عنده مبدأ: أن يعمل بدقة حتى لو تأخر الوقت، فمثلاً يسأل عن هذه الصورة كيف صدرت هكذا، وكيف رتبت، وقد نرتبك من أسئلته الدقيقة، ولكن ما هي إلا دقائق ويندفع حنان دافق في كل موقف، فهو يبتسم بابتسامة وحنان، وبراءة تظهر في عينيه. أذكر أن قداسته عندما زاره الشيخ الشعراوى، قرأ له قداسته بعض أشعار من كتاب انطلاق الروح، مما أعجبه جدًا، ولكن تركيزى كان على عينى قداسته التي كانت تفيض بالحب، ذلك الحب المتبادل بينهما. فبالحب استطاع قداسته أن يكسب الكل، فحنانه دافق ومحبته جبارة «واَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا» (1كو 8:13)… شكرا لله الذي منحنى أن أشارك في الاحتفال بهذه المناسبة السارة، فقد قطعت رحلتى إلى أمريكا في مؤتمرات الشباب لأشارك في هذه المناسبة، وفى هذا الحدث العظيم حول هذه الشخصية العظيمة، والتى سيسجلها التاريخ بفخر، بحروف من نور.. ولربنا كل المجد إلى الأبد آمين.
- الأسقف العام للشباب
بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية