التفكير الإبداعى هو تفكير رائد وخلّاق ومُجدد، يرصد المشكلات ويبحث عن الحلول، يفكر فى التحديث ويستهدف التطوير ويتطلع إلى التنوير، الأمر الذى نحتاجه اليوم، وأكثر من أى وقت مضى. وفى تاريخ مصر الحديث والمعاصر ظهر الكثير من الرؤى الإبداعية والأفكار غير التقليدية، التى ساهمت فى تطوير المجتمع، أذكر بعضًا منها هنا لعلنا نتعلم ونستفيد..
(١)
فى مطلع الثلاثينيات من القرن التاسع عشر أسس محمد على باشا، والى مصر وحاكمها (١٨٠٥-١٨٤٨م)، مدرسة المولدات لتعليم طب النساء والتوليد، وحاول عميد الأسرة العلوية، ومعه رجاله، إقناع الأسر المصرية بأن ترسل بناتها للتعلم فى تلك المدرسة المناسبة للبنات، لكن المصريين رفضوا تمامًا من باب العيب، حيث كانت البنت تخرج من البيت مرتين فى حياتها؛ الأولى حين تتزوج ويتم زفافها إلى بيت عريسها، والثانية حين يتوفاها الله ويدفنونها فى مقابر الأسرة. لكن الرجل لم ييأس، وقرر الاعتماد على البنات المشردات والفتيات اللقيطات والسودانيات، ليتعلمن فى تلك المدرسة.
ويأتى الخديو إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٩م)، الذى يلقبه المؤرخون بالمؤسس الثانى لمصر الحديثة بعد جده محمد على، وفى عام ١٨٦٥م وافق إسماعيل على صدور مجلة (يعسوب الطب)، تحت إشراف محمد على باشا البقلى الحكيم رئيس مدرسة قصر العينى، وزميله إبراهيم الدسوقى بك، وهى أول مجلة متخصصة فى الطب والصحة تعرفها مصر، واستمرت فى الصدور لعدة سنوات. وفى هذه المجلة كتبت السيدة جليلة تمرهان مقالات ونصائح طبية، وكانت «جليلة» خريجة مدرسة المولدات، وهى تُعتبر أول صحفية تكتب فى الصحف حسب مؤرخى الصحافة المصرية، والفضل يرجع لمدرسة المولدات.
(٢)
ومن تاريخنا الفنى قصة يرويها كمال الملاخ ورشدى إسكندر فى كتابهما «خمسون سنة من الفن» (دار المعارف- ١٩٦٢م)، حيث كان الفنان التشكيلى راغب عياد (١٨٩٢-١٩٨٢م) يقوم بتدريس الرسم فى مدرسة الأقباط الكبرى، وصديقه الفنان التشكيلى يوسف كامل (١٨٩١-١٩٧٣م) يقوم بالتدريس فى المدرسة الإعدادية، وفكرا فى السفر إلى إيطاليا لتطوير قدراتهما الفنية، فاقترح راغب عياد أن يقوم أحدهما بالتدريس فى المدرستين معًا، بينما يسافر الآخر إلى إيطاليا للدراسة، ثم يتبادلان الأدوار، وبالفعل قابلا ناظرى المدرستين اللذين وافقا على الفكرة، حيث سافر يوسف كامل أولًا إلى إيطاليا، وقام راغب عياد بالتدريس فى المدرستين وإرسال المرتب شهريًّا إلى صديقه، وفى الإجازة سافر راغب للقاء صديقه يوسف، وهناك تقابلا مع محمد كامل سليم (سكرتير سعد باشا زغلول)، فطلب منهما مقابلة سعد الذى كان يستشفى هناك بعد خروجه من سيشل، ففرح بهما كثيرًا، وقال ليوسف كامل «روح سدد الدين لزميلك»، فعاد يوسف كامل إلى مصر وعمل بالمدرستين، وأرسل الراتب لصديقه راغب عياد فى إيطاليا.
وفى مصر اجتمع البرلمان فى دورته الأولى عام ١٩٢٤م، وروى ويصا واصف (١٨٧٣-١٩٣١م)، قصة الشابين اللذين نالا إعجاب كل الأعضاء، ودعا إلى تشجيع الفنون الجميلة، وفتح اعتماد سنوى لذلك فى وزارة المعارف، فوافق المجلس واعتمد مبلغ اثنى عشر ألفًا لإرسال البعثات إلى الخارج، وفى سنة ١٩٢٥م سافر يوسف كامل وراغب عياد إلى روما، ومحمد حسن إلى إنجلترا، وأحمد صبرى إلى فرنسا. وفى روما نبتت فكرة تأسيس «الأكاديمية المصرية للفنون» فى ذهن الشاب راغب عياد.
(٣)
ومن تاريخ الطباعة والصحافة أن صادق سلامة (١٨٩٥-١٩٥٥م)، من أبناء المنيا، اكتشف أن أصحاب (الدوائر) يتكبدون الشىء الكثير فى طباعة مطبوعات دوائرهم فى مطابع القاهرة، أو فى غيرها، فأسس مطبعة اتفق قبل إنشائها مع عدد من الدوائر على أن يكون لها امتياز تغطية مطبوعاتها. وأصبحت مطبعة «صادق» بمدينة المنيا موردًا رفعه إلى مستوى أصحاب هذه (الدوائر) أنفسهم. وكانت واحدة من المطابع الشهيرة آنذاك بالوجه القبلى، وفى مطبعته طبع جريدته (الإنذار) التى صدر عددها الأول يوم الأحد ٨ يونيو ١٩٣٠م، وهى جريدة أدبية أخلاقية عمرانية أسبوعية، تحولت فى سنة ١٩٣١م إلى صحيفة سياسية، واستمرت فى الصدور إلى عام ١٩٥٥م، حيث توقفت مع وفاته، وكانت جريدة رصينة وقوية تنافس صحف القاهرة، على مستوى الشكل والمضمون.
وكان يُعلن عن مطبعته فى أعداد جريدة (الإنذار) التى أصدرها سنة ١٩٣٠م بقوله «مطبعة صادق بالمنيا أكبر مطبعة فى الوجه القبلى. كتب، جرائد، مجلات، دفاتر حساب على أكبر مقاس». وكان يطبع فيها عددًا من الصحف الإقليمية الصغيرة التى كانت تصدر فى صعيد مصر، بما كوَّن له نوعًا من الزعامة على الصحفيين الإقليميين، ومكّنه من عضوية مجلس نقابة الصحفيين.