في أحد الأحياء الهادئة بالقاهرة، ولد الطفل رؤوف غبور لأسرة ميسورة الحال، لكن رغم ذلك، لم تكن الحياة مفروشة بالورود. كان رؤوف طفلًا مليئًا بالطموح منذ نعومة أظافره، لكن والده أراد أن يعلمه درسًا مهمًا في الاقتصاد، خاصة بعد أن لاحظ ميل ابنه الصغير للإسراف. وهكذا، كان ذلك اليوم الذي تغيرت فيه حياة رؤوف غبور للأبد.
عندما كان رؤوف في سن الثامنة، اتخذ والده قرارًا حاسمًا بحرمانه من المصروف الشهري. أراد والده أن يشعره بقيمة المال وأهمية التدبير. شعور رؤوف بالظلم كان عميقًا، لكن ما فعله بعد ذلك كان مفاجئًا للجميع. بيده الصغيرة، أحكم قبضته على 15 قرشًا كانت كل ما يملك، وقرر أن يصنع منها شيئًا كبيرًا.
أخذ رؤوف يطوف شوارع الحي باحثًا عن طريقة يضاعف بها نقوده. كانت فكرته الأولى بسيطة، لكنه لم يكن يدرك حينها أنها بداية مسيرته نحو عالم الأعمال. توجه إلى محل البسبوسة الذي كان يراه كل يوم في طريقه للمدرسة. دخل المحل وسأل البائع بابتسامة شقية: “بكام صينية البسبوسة؟” نظر إليه البائع باستغراب وقال: “الصينية بـ60 قرش يا بني”.
لم يكن لرؤوف المبلغ المطلوب، لكن عقله الصغير كان يعمل بسرعة مذهلة. قال للبائع بكل ثقة: “طيب، عايز ربع صينية.” ضحك الرجل من بساطة طلبه وقال له: “يا بني مفيش حاجة اسمها ربع صينية، يا تاخد قطعة، يا نص صينية، أو كلها.” وبسرعة حسابية بديهية، أدرك رؤوف أن نص الصينية سيكلفه 30 قرشًا، وهو ما يزيد عن نقوده المتاحة.
عاد رؤوف إلى البيت ولم يستسلم. ذهب إلى الخادمة التي تعمل في بيتهم، وطلب منها أن تقرضه 15 قرشًا، واعدًا إياها برد 20 قرشًا قريبًا، ضاحكًا بعد سنوات وهو يتذكر هذه اللحظة: “مبدأي واضح من وأنا صغير، فاهم طريق الاقتراض والفايدة بالفطرة!”
بجسارة وشجاعة، جمع رؤوف الـ30 قرشًا المطلوبة واشترى نصف الصينية. لكن عبقريته لم تقف عند هذا الحد، إذ قطع الصينية إلى 12 قطعة، وذهب إلى النادي ليبيعها لأصدقائه بربح مضاعف. كانت تلك بداية تجارته الصغيرة التي استمرت شهورًا، ومع كل قطعة بسبوسة باعها، كان رؤوف يقترب خطوة من تحقيق حلمه. وبهذا الأسلوب البسيط، جمع أول خمسة جنيهات في حياته، وقرر أنه لن يأخذ مصروفًا من والده بعد الآن.
كبر رؤوف، ومعه كبر طموحه. وبحلول عمره الثاني عشر، كان قد تمكن من جمع 10 آلاف جنيه دون أي مساعدة من والده أو أي شخص آخر. لكن طموحه لم يتوقف هنا. ففي أحد الأيام، كان جالسًا مع أحد أقاربه عندما سمع عن هيئة “نمرو” الأمريكية في مصر التي كانت تستبدل الأجهزة الكهربائية بعد عام واحد من الاستخدام، وتبيعها في مزادات بأسعار زهيدة رغم أنها تعمل بكفاءة.
أدرك رؤوف أن هذه فرصة لا تُفوت. طلب من قريبه أن يبلغه بموعد المزاد القادم، وبالفعل، حصل على المعلومات. لم يردعه صغر سنه أو قلة خبرته، بل توجه بكل ثقة إلى المزاد واشترى بضاعة بقيمة 3 آلاف جنيه. وعندما عاد إلى القاهرة، خزن الأجهزة في جراج والده، وباعها لاحقًا بربح يفوق 10 آلاف جنيه. لم يكن الأمريكيون في المزاد يهتمون بعمره أو هويته، بل كان التعامل سلسًا ومهنيًا، ورؤوف لم يترك هذه الفرصة تضيع.
مر الوقت، وكبر رؤوف ليصبح شابًا في السادسة عشرة من عمره، لكن تجارته لم تقتصر على الأجهزة الكهربائية. في ذلك الوقت، دخل عالم تجارة العملة. كان خال أحد أصدقائه يمتلك 100 ألف دولار وطلب من رؤوف أن يتحدث إلى والده لتغيير العملة. بسلاسة ودهاء، ذهب رؤوف إلى والده وسأله عن سعر تحويل الدولار، فأجابه والده: “الدولار بـ65 قرش”. لم يضيع رؤوف الوقت، وعاد إلى خال صديقه ليخبره أن والده سيغير له الدولار بـ64 قرشًا فقط، محققًا ربحًا قدره قرش واحد عن كل دولار.
كانت هذه الخطوة ذكية للغاية، لأنها سمحت له بدخول عالم التجارة الدولية حتى وهو ما زال في المدرسة. استمر في تجارة العملة حتى تخرج من الجامعة ببكالوريوس في الطب، لكنه لم يكن مجرد طالب طب عادي. بحلول تخرجه، كان قد جمع نصف مليون جنيه من شقاء عمره وتجارته الذكية.
رؤوف غبور لم يكن مجرد رجل أعمال ناجح، بل كان نموذجًا للإصرار والطموح منذ طفولته. من تلك اللحظة التي قرر فيها ألا يعتمد على مصروف والده، وحتى يومنا هذا، ظل رؤوف يؤمن أن النجاح يبدأ من العقلية الصحيحة والتفكير الاستراتيجي. لم يكن ينتظر المساعدة من أحد، بل كان دائمًا يبتكر طرقًا جديدة لزيادة دخله وتوسيع تجارته.
وعلى الرغم من أن عائلته كانت ميسورة الحال، إلا أن رؤوف اختار الطريق الصعب. لم يعتمد على أموال عائلته، بل بنى نفسه بنفسه، وأسس إمبراطوريته الخاصة التي أصبحت اليوم من أكبر شركات السيارات في مصر. قصة رؤوف غبور ليست مجرد قصة رجل أعمال، بل هي قصة كفاح وإصرار، قصة طفل صغير بدأ من بضع قروش ليصل إلى القمة، قصة تلهم أجيالًا كاملة أن النجاح الحقيقي يبدأ من الإيمان بالنفس والقدرة على تحويل الفرص البسيطة إلى إنجازات عظيمة.