اقتداءً بخطاب ابن عربي والحلاج والسهروردي…
الشاعر رأفت السويركي… في لطائفه وفرائده متصوفاً
في إطار مشروعه الإبداعي المتنوع الجامع بين أنماط الشعر المختلفة “التقليدي والحر/التفعيلة؛ والقصيدة البصرية والأنثولة الشعرية” أطلق الإعلامي الشاعر والباحث رأفت السويركي الجزء الأول من ثلاثيته في أدب التصوف بعنوان “اللطائف الصوفية من الفرائد السويركية”؛ مستهدفاً من ذلك أن يقدم خطاباً جديداً من نوعه في إطار آداب التصوف؛ متميزاً بخصوصية نمطه في التعبير؛ والذي اشتقَّ وَنَحَتَ له اصطلاحاً جديداً يُستخدم للمرة الأولى في اللغة العربية باسم “الصُّوْفِيْدَة”؛ أنموذجاً جامعاً بين الشعرية والنثرية بهويتهما الصوفية.
لذلك يَسِمُ الكاتب الوحدة النصية لكل الفقرات التي يحتويها الكتاب بـ “اللطائف”، والتي يصفها بـ “اللَّطِيْفَة” وهي: صَحِيْفَةٌ؛ مَحْفُوْفَةٌ بِالنُّوْرِ؛ وَمَمْهُوْرَةٌ بِمَغْزَلِ صُوْفِ الزُّهْدِ؛ سَعْيُهَا الْفَوْز بِالْوَعْدِ وَالْمَوْعُوْدِ؛ لِأَنَّهَا بِلُغَةِ الْقَلْبِ مَنْثُوْرَة؛ وَبِرُوْحِ الشِّعْرِ مَسْطُوْرَة.
ويربط السويركي بين “اللطائف” وبين “الدَّراري التي تطلع في آفاق السماء منفردة عن سائر النجوم”؛ ليشكل هوية مُحلِّقة لنصوص عمله الجديد في موضوعه وأسلوبه.
وهنا يلحق “اللطائف السويركية” بلقبه الممهور باسم قبيلته “السواركة”، التي تنحدر نسباً من ذرية الصحابي الجليل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، الذي وصفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بأنه “خير فارس في العرب”؛ متطرقاً لذكر العارف بالله الشيخ “عيد أبو جرير” من عشيرة الجريرات السويركية، وهو المؤسس الأول للصوفية في سيناء؛ ليعتبر تلك اللطائف تأكيداً لامتداد روح خطاب علامات التصوف، كنهج إيماني عرفاني عميق.
الجزء الأول الصادر في 2024م عن دار “دان للنشر والتوزيع” بالقاهرة يكشف خلاله الشاعر المتصوف عن تجربته الصوفية الخاصة، والتي وصفها بأنها خارجة عن الطرائقية التقليدية التي تتوزع بينها الطرق الصوفية في تطبيقاتها الرائجة والمشهورة؛ مثل الرفاعية والشاذلية والخلوتية والبدوية والقدرية والعزمية والدسوقية و… و.. إلخ؛ والتي ارتبطت بمسلكية الموصوفين بالسالكين.
لكنه يُذكِّر بعلامات المتصوفة الرواد مثل ابن عربي والحلاج والسهروردي والجنيد والرومي، محاولاً اختطاط هُدَى نَهْجِهِم؛ ولعل تجربته في الكتابة الصوفية تحاول الاهتداء بنصوصهم؛ ليس تقليداً ولكنها مواكبة للنوعية، فكانت لطائفه من الفرائد ذات ظهور شعري وهي ترتدي ثياب النثرية المكثفة، فضلاً عن قصائده الشعرية صوفية اللغة والموضوع. وهذه القصائد بتواريخها تثبت عمق تجربته وقِدَمِهَا في التوقيت الذي شهد استيلادها، ومنها ما جرى نشره في بعض الدوريات الأدبية العربية.
ما يعني ذلك أن الاصطلاح الذي قام بنحته وهو “الصوفيدة” يكشف مقصوده بشعرية اللغة الصوفية التي سجلها بنثريتها، فبدت “اللَّطِيْفَة” أقرب إلى القصيدة النثرية؛ عبر تكثيف اللغة وهارمونية موسيقاها الكامنة والظاهرة؛ فيما تجلت الشعرية المعروفة في القصائد التي اختتم بها الكتاب.
ولعل التصدير الذي كتبه الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي، عالم اللغة العربية الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب بمؤلفاته العميقة والمتنوعة، يمثل مفتتحاً مهماً للسباحة في “عالم اللطائف”؛ ذاكراً أن: “أدب المتصوفة ألصق بتجربة المتصوف، وأدل عليها”.
ولذلك كان التعبير الذي ابتدعه المتصوف رأفت السويركي في هذا المقام أدل على لطائفه الصوفية التي تدفقت من نبع الدرر السويركية.
واللطائف إشراقات تومض وتبرق وتلمع، قد تقتنصها اللغة وقد تفرُّ منها. وحين تتلبس باللغة فهي الشعر وهي الجسد الحسيِّ الذي تبلور لعيوننا وبقية حواسنا الأخرى صوراً ورموزاً”.
ويضيف الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي: “وهي إذ تتبلور ـ اللطائف ـ لا تفقد طبيعتها الأولى قبل التلبس باللغة؛ فهي ورقاء ذات تدلل وَتَمَنُّع لكونها هبطت إلينا من المحلِّ الأرفع. ومن ذلك أنها لطيفة لا تتحدد ولا تتشكل، وحين تتشكل تكون هي والشكل واحداً. فهي غامضة كل الغموض، وواضحة كل الوضوح في الوقت ذاته. فالله سبحانه لطيف لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو الظاهر لكل ذي عقل وبصيرة، وهو الباطن المحتجب عن كل الأشكال والأحياز”.
وقد تَخَيَّر الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي في مقدمته مجموعة من اللطائف الدالة على مقصوده في التصدير؛ منها:
- “هو المخفي لعيني وهو الظاهر لقلبي؛ ورؤية القلب أصدق من العين”.
- “يقولون الغيب وأقول الحضور؛ فالإيجاد نفحة النور والوجود علامة الحضور؛ فلا غياب إن كان إلا بفعل الحضور؛ وهو بملكوته لا يغيب. والغيب هو اللامعلوم للمغلقة قلوبهم”.
- “يقولون إن التصوف ليس علماً. لا يفهم الجاهلون معنى علم العلوم”.
- “يهب الله العلم لكل مخلوق بمقدار احتماله القدرة على التسبيح؛ فيجاهد لما خلق له. البذرة بالعلم الدفين في فلقتيها تكون نبتة؛ ثم تصير شجرة؛ فتنجب الثمرة التي تحمل البذرة وفي متنها كذلك يكمن علم التسبيح الذي هو علم الحياة؛ لهذا كل موجود يسبح بحمده (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
وما يؤكد قيمة هذا التصدير الذي يعتز به الكاتب رأفت السويركي هو ما ذكره خلال صفحات الكتاب الذي بلغ 245 صفحة من أن مشروعه في الكتابة الصوفية يسعى إلى تحديث نمط الكتابة في التصوف؛ والتي وصفها بلغة النور المفاض بها في قلوب السالكين والواصلين بالسعي إلى الرضا من الخالق؛ وما يفيض به من معارف حول ما يَعِّنُ لهم من الهَديِّ المحكوم بعطاء النص القرآني الكريم؛ باعتباره كتاب الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)؛ وما يكتنزه من معانٍ لا تنقضي في تجددها ذي الديمومة المتواصلة إلى أن تقوم الساعة، إذ أن المعاني المحمولة في النص القرآني المقدس محكومة في فهمها بزمان القراءة المتواصل والممتد إلى أن تقوم الساعة وفق مستجداته بعد انقضاء زمان النزول الذي رفعت فيه الأقلام وجفت الصحف؛ وتجيء المستجدات بالإلهامات التي يهدي بها الله العلماء الأصلاء وكذلك العارفين، وكلهم من أهل النور كما يصفهم السويركي.
والملفت أن الكتاب يتضمن مجموعة من اللطائف الشعرية الموصوفة بـ “الصوفيدة” ومنها أنموذجاً:
“حين أبصر/ تتجلى الروح طيراً/ يتوله/ يرتقي بي/ في اشتياق/ لسلاف الوعد والورقاء يعبر/ طوق طاء/ يتسامى في صراطي/ وسراجي/ في سنا الأسرار سين/ تتسنى بالسجايا/ ومساحات الهوى تنداح راحاً/ في كؤوس الوجد يُسكر”.
كتاب “اللطائف الصوفية من الفرائد السويركية” يمثل رحلة من القراءة الممتعة للقارئ الجديد في القرن الحادي والعشرين اهتداءً بكنوز رواد التصوف العظماء.