كان يوم السادس من أغسطس ١٩٩٦ هو اليوم الأول لي في مستشفى معهد ناصر، وبمجرد دخول الغرفة ١٣٤ جناح القلب الكويتي، لأنه تجهز بمعونة كويتية، بدأت الحكيمات ثورتهن في اخذ عينات دم عديدة وعينات بول ورسم قلب وموجات صوتية وغيرها .
المهم امضيت حوالى ساعتين بينهن، ثم هدأت الامور، فاخذت اتجول في المستشفى، وعندما زهقت من الفراغ قلت للحكيمة:
اذا لم تكن هناك أعمال خاصة بي باقي النهار . ممكن اروح البيت وآجي لكرة.؟
هنا، أسرعت الحكيمة وطلبت الدكتور أحمد البشري الذي ضحك كثيرا من هذا الموقف وكلمني وقال انا جاي.
انا قلتها بشكل عادي جدا اتاري حكايتي دي تحولت إلى نكتة سمعت بها كل المستشفى، واصبحت مشهورا بينهم، لأنني لم أكن اعرف ان مرضي كثر من قبل هربوا من غرفهم، وظنوا انني منهم.
وكانت زوجتى قد تكلمت مع المستشفى لتعرف طبيبي الجراح، فكلمته قبل أن يكلمني، وعرف منها انني صحفي، وقال كان يجب عليا ان اخبره بذلك لكى أجد الاهتمام الذي؟ استحقه، فقلت له:
انا لا اريد اهتماما لكوني صحفي بل لكوني انسان مثل أي مريض هنا، واعلم ان أصابع البشر لا تغير القدر، يعني عليك بذل الجهد وترك التوفيق على الله، ونصيحتي الوحيدة ان تكون على طهارة وانت تجري جراحتى، فقال:
انا اتوضأ واصلي كثيرا قبل كل جراحة، لأنني لا اشفي مرضانا بل انا سبب وربك هو الشافي؛ فقلت:
ونعم بالله.
وبالمناسبة الدكتور احمد البشري ابن عم الدكتور المفكر طارق البشري وهما من احفاد الشيخ سليم البشري شيخ الازهر نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن ابعشرين .
المهم، هنا عرَّفني الدكتور البشري بالدكتور محمد كامل مدير المعهد والدكتور ممدوح ابو زهرة مدير العلاقات العامة، وكانت المفاجأة أنهما لا يدخلون صباحا إلى مكتبيهما الا بعد المرور عليا اولا، فصرت عبئا على الجميع، لدرجة ان زوجتى عندما جاءت بجلابيب لي استلمتها الحكيمة منها، وكانت تقدم لي الجلابيب البيضاء معقمة ومكوية، وكانت الغرفة تنظف كل ساعة تقريبا، وقبل أن أدق الجرس أجد الحكيمة في وجهي في اي لحظة من ليل أو نهار.
وكان الاستاذ سمير رجب رئيس تحرير مايو وقتها، قد كلم صديقه الدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة عنى؛ وقرر ان يزورني، وكان الوزير يعرفني لأنه كان مستشار لمجلة الناس والطب وانا سكرتيرا لتحريرها، فكلم الوزير الدكتور محمود كامل واوصاه عني، والدكتور كامل أوصى نائبه ابو زهرة وبقى وجودي حكاية.
وكنت قبل يوم من هذا اليوم قد زرت المكاتب العربية التي اعمل بها وعلى راسها جريدة الشرق الاوسط، وكان الأخ محمد السلوم المدير السعودي لتحريرها قد لفّ بي مكاتبها وهو يوصي الجميع بزيارتي في المستشفى، وزوجتى تعمل بالاهرام وانا في مايو ومايو تديرها اخبار اليوم ماليا وتديرها الجمهورية تحريريا ، فصارت زواري من الزملاء بشكل غير مسبوق لدرجة ان خصصوا افرادا على البوابات لاستقبالهم واحضارهم لغرفتي مباشرة، والخروج معهم عند العودة.
المهم، في مرة بعد العملية انا ممدد على سريري وحولى زملاء كٌثر دخل الغرفة الدكتور البشري ومسح جبهتي بيده فوجد أثرا لعرق والغرفة باردة ثلج، فاستاذن الزملاء بالخروج لأنني داخل على أزمة قلبية، ولكن الحقيقة انا كنت جائع جدا وليس لي نفس لأي شيء؛ ورائحة جميع الأطعمة مثل رائحة دواء التوسيفان بتاع الكحة، الطبيخ توسيفان والعصير توسيفان فكرهت رائحته التي تشمها في كل شيء.
هنا أصر الدكتور البشري ان آكل اي شيء، فقلت:
عايز ليمون مخلل، فقال:
ممنوع، فقلت:
نصف ليمونة فقال ولا ربع حتى، ثم قال ممكن عصير ليمون، فقلت لا عايز فتة بالليمون، وهنا كانت حماتي تسلق لي اللحم البتلو المشفى من اي أثر ابيض، فعلمت بحكايتي الان، فقالت انها ستأتي بالشوربة خلال نصف ساعة .
المهم، طلبت من الدكتور أحمد البشري ان آكل دقة التوم بتاعتي، وشرحتها له وقلت:
هي ثوم وفلفل حراق وليمون وبقدونس، وكله مفروم معا، فقال لي:
بلاش الفلف وخليك في الباقي، المهم جاءوا بالخبز الطباقي أيامها وهو محمص، والشوربة الساخنة، فلما ذقت الشوربة بأول ليمونة وجدت طعمها ماء ساخن فعصروا ليمونة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة ولم أشعر بحدقان الليمون الا في السادسة، لأن البنج والمسكنات ضيعت لساني وحاسة التذوق تماما.
ومع هذا الحدقان وطعم الدقة اللاذع للثوم، انفتحت أبواب شهيتي وزلطت رغيف بحاله، واكثر من نصف كيلو لحم بتلو .. كله زلطا لأنني لو مضغت شيء سأرجعه فورا، فكنت ارمي الأكل في فمي بالملعقة وابلع على طول حتى اتجنب المضغ، ثم جاء الدكتور البشري وعدد من فريقه الطبي، وكان عندي عدد من الزوار، ووضع يده على جبهتي ويده الاخرى على شريان يدي وقال:
آه طمني عامل ايه؟، فقلت له بلهفة:
ايوة يا دكتور، انا عايز منك خدمة مش هنساها ابدا، فقال بلهفة وعجلة :
ماذا تريد؟، فقلت:
عايزك تجيب لي ٦ انفار ، فقال:
ليه؟، فقلت:
اضربهم لك .
وهنا تعالت الضحكات من الجميع .
وبعد الضحك قال:
كل ده من دقة التوم دي؟، فقلت:
دي خطيرة والله.
كان هذا الوقت عصرا، ثم فوجئت قبل منتصف بالدكتور البشري يكلمني من بيته ويقول لي:
هي دقة التوم متكونة من ايه؟
فقلت له المقادير ليجيء صباحا ويقول لي:
فعلا دقة التوم خطير ، خلتني انام بعمق الليلة دي.
وبقينا أصحاب جدا .