العداء الشديد الذى قوبل به كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة»، يثير الكثير من علامات الاستفهام، لماذا مر كتاب رفاعة الطهطاوى، قبل أكثر من ربع قرن، بسلاسة شديدة وترحاب، بينما اكفهرت الوجوه أمام قاسم أمين وكتابه، رغم تواضع مطلب قاسم أمام مطالب أو اقتراحات الطهطاوى، الذى لم يتردد فى اقتراح أن تتولى المرأة أرفع موقع سياسى فى الدولة.
أصدر الطهطاوى كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، بتكليف من ديوان المدارس، وفق تعبيره هو «صدر لى الأمر الشفاهى»، كان على رأس الديوان وقتها الأمير حسين كامل، نجل الخديو إسماعيل وسلطان مصر فيما بعد، فحوى الأمر «عمل كتاب فى الآداب والتربية يصلح لتعليم البنين والبنات على السوية». مقدمة الكتاب كلها امتداح وتقدير للخديو إسماعيل وما يقوم به للبلاد، خاصة فى مجال التعليم «فقد سوى فى اكتساب المعارف بين الفريقين، ولم يجعل العلم كالإرث للذكر مثل حظ الأنثيين وترد فى الكتاب مرارا كلمة «البنات كالبنين».
لم يكن الكتاب كله فى التربية فقط بمعناها الضيق، يمكن أن نضيف كذلك «التربية الوطنية»، لذا نجد فصلا يعنون «فى الحرية العمومية والتسوية بين أهل الجمعية»، المقصود بالجمعية، المجتمع أو الجماعة الوطنية، نجد كذلك فصلا عن «فى تمدن الوطن»، وحديثا عن حقوق المواطن ثم عن واجباته؛ كذلك ارتباط السعادة بالحرية.
نجح الطهطاوى فى بث كثير من الأفكار الليبرالية، فى إطار مشروع الدولة الحديثة؛
باختصار صدر كتاب الشيخ رفاعة، فى إطار مشروع التحديث الذى يقوم عليه ويتبناه الخديو نفسه، أى أن الهجوم على الكتاب، أو حتى انتقاده يعنى- ضمنًا- الهجوم على المشروع الرسمى للدولة وكذلك للخديو شخصيًا، وهكذا مر الكتاب، ثم نسى تماما بعد رحيل المؤلف ومع التحولات السياسية والاجتماعية الحادة التى تعرضت لها مصر، منذ نهايات عصر إسماعيل.
قاسم أمين قدم كتابه بعيدا عن أى جانب رسمى، لا أمر من أمير ولا تكليف من خفير، موقف إصلاحى ارتآه هو، لا يجب أن يفوتنا أنه أصيب بالحمى، حين قرأ كتاب دوق دلا كروا، الذى انطوى على نقد مقذع للمصريين ولدينهم- الإسلام- لم يهدأ قاسم إلا بكتابة دراسة بالفرنسية فى تفنيد ذلك النقد، حملت عنوان «المصريون» وكان مدافعا بقوة وحماس شديدين عن المصريين وعن الإسلام.
رغم وظيفته قاضيا، وهى وظيفة رسمية مرموقة، بدا فى كتابه «تحرير المرأة» أنه فى الضفة الأخرى، كان محسوبًا على مجموعة الشيخ محمد عبده وصالون الأميرة نازلى فاضل، لم يكن الخديو عباس حلمى راضيًا عن الشيخ ولا محبا له، الأميرة كانت ابنة الأمير مصطفى فاضل، وهذا الجناح من الأسرة ناصب الخديو إسماعيل وأولاده العداء، إذ استطاع إسماعيل تعديل ميراث الحكم ليكون فى أولاده وحدهم، دون بقية أفراد العائلة، وقد تم ترسيخ فكرة أن الشيخ محمد عبده وتلاميذه، بل الأميرة ذاتها، من المشمولين برعاية وحماية المعتمد البريطانى لورد كرومر، وفهم الأمر لدى فريق من المصريين أنهم «عملاء» الإنجليز، حتى إن البعض أطلق عليهم «حزب كرومر»، وهنا يمكن أن نحدد الخصوم والخصومة.
جانب من الخصوم انطلقوا من نظرة وطنية واضحة، رأت فى كتاب قاسم وفكرة «تحرير المرأة»، جزءا من مشروع الاحتلال وصبغ المجتمع بطابعه، وهو مأسوف يطلق عليه مشروع «تغريب مصر»، ولم يكن هؤلاء بعيدين عن الخديو عباس، كان الخديو حتى سنة 1904 بنظر الكثيرين رمزًا وطنيًا، ساعيا نحو الاستقلال، يحاول أن يتصدى لكرومر وهيمنته الطاغية، كان مصطفى كامل وأنصاره فى هذا الاتجاه، من سيؤسس بهم، بعد سنتين، الحزب الوطنى.
يمكن أن نضع طلعت حرب فى هذا السياق ونتفهم كتابه فى الرد على كتاب قاسم أمين. حين أصدر كتابه، لم يكن قد أصبح بعد الاقتصادى المرموق والمؤسس العظيم لبنك مصر وعدد من المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الوطنية الكبرى.
هؤلاء جميعا كانوا بين غير محب أو كاره الشيخ محمد عبده ومن معه، لأن الشيخ كان من زعماء الثورة العرابية- دعنا الآن من خلافه مع عرابى- مع بوادر الانكسار واهتزاز مشروعهم أمام الخديو توفيق المدعوم بالجيش البريطانى، مصطفى كامل وحزبه اتهموا عرابى مباشرة ومن معه أنهم- هم- من جلبوا على مصر الاحتلال البريطانى.
وهكذا صار قاسم أمين أمام هؤلاء جميعًا أقرب إلى شاخص التنشين فى تدريبات إطلاق الرصاص.
كان الكتاب فرصة أو مبررا كى يتكشف ما فى النفوس من قلق ومخاوف، على الأقل هواجس وطنية واجتماعية.
ويبقى التساؤل حول موقع العلماء الذين هاجموا قاسم أمين، بعض الهجوم كان متجاوزًا إلى أبعد حد.
تقليديًا وتاريخيا كان موقف معظم العلماء حيث كان «ولى الأمر»، ولأسباب كثيرة يمكن أن نتفهم ذلك الموقف ولا نجد فيه غضاضة. لكن كانت هناك دوافع أخرى، يمكن أن نسميها فئوية أو ذاتية. ذلك أن محمد على كان قد اتجه إلى توسيع وتنويع «النخبة»، لقرون عديدة كانت النخبة المصرية تتكون أساسا من العلماء ويلحق بهم كبار التجار، ولما كان باب القلعة والوالى مغلقا أمام المصريين، لعب كبار العلماء دور الوسيط بين الباشا العثمانلى وعموم المصريين. ومع مشروع التحديث الذى بدأه محمد على وبدت نتائجه، فضلا عن التوسع فيه زمن إسماعيل.
اقتضى وجود طائفة جديدة من المتعلمين فى المدارس الحديثة، المدارس العليا، وأخذ هؤلاء يشغلون مواقع مؤثرة فى الدولة، صار اسمهم «الأفندية» فضلا عن تأثيرهم فى قطاعات من الرأى العام، لم يعد العلماء الصوت الوحيد الذى يسمعه المواطن، مع الطباعة انتشرت الصحف وظهرت مؤلفات لكتاب جدد، شعراء، قصاصين، كتاب مقالات وغيرهم، هل نتذكر «حديث عيسى بن هشام»، الذى وضعه محمد المويلحى ونشر صحفيا- قبل أن يصدر فى كتاب- نفس سنة صدور كتاب قاسم أمين وكتابات الشيخ على يوسف، هى نفس الفترة التى عرفنا فيها، فن المسرح واتسع مجال الغناء والطرب ثم السينما، صار الأفندى، أيا كان مسماه وموقعه، موجودا فى الفضاء العام إلى جوار الشيخ، فى حالات كثيرة تقدم عليه أو استبقه.
هؤلاء من صار مسماهم بعد ثورة سنة 1919، «المثقفين»، واتسع دورهم وتأثيرهم، فضلا عن اتساع حجمهم.
يجب أن نعترف بأن العصر العثمانى، عرف بعض نماذج من «الأدباتية»، يقدم لنا الجبرتى فى كتابه عجائب الآثار، المجلد الثانى تحديدا، ترجمة وافية لبعضهم ونماذج مما كتبوه وقاموا به، شعراء يكتبون بالعامية أحيانا ويضعون أزجالا، وكانوا يقومون بالنقد الحاد، شديد الجرأة لبعض الأوضاع وهجاء قاس لبعض العلماء وقضاة الشرع بالاسم، ولأن أغلبهم كانوا من طلاب العلم والفقه، لم يتمكنوا من إكمال تعليمهم، لذا كانوا شديدى النقمة والغضب، على الجميع. كانوا يعاقبون أحيانًا بالضرب المبرح والإهانات البالغة مثل التجريس، ولذا كانت النظرة العامة لهم متدنية وكان تأثيرهم محدودا، لم يكن هناك إعلام ولا كانت طباعة، كان تأثيرهم شفويًا، بالكاد يصل إلى بعض مجالس السمر والمقاهى، كانوا مهمشين بالمعنى الكامل.
النخبة الجديدة كان أفرادها غير ذلك، يشغلون مواقع مهمة وحساسة، يتمتعون بتقدير وتأثير اجتماعى، على مبارك، النموذج الأبرز فى عهد إسماعيل، كان دارسًا للهندسة.
كان قاسم أمين فى زمانه، نموذجا مهما لتلك النخبة الجديدة، حتى وإن نال لقب «بك».
يمكن القول إن فئة من العلماء اعتبرت ظهور هؤلاء فى المجال العام، تهديدا وجوديا لهم، لنتذكر أن الفترة نفسها شهدت دعوات جدية لتأسيس جامعة على النمط الحديث، كان قاسم أبرز الناشطين لتأسيس تلك الجامعة، بعض العلماء ناصبوا مشروع الجامعة العداء الشديد.
قاسم أمين اقترب من وتر حساس لدى بعض العلماء، إذ خاض فى قضية تعد من صميم اختصاصهم، هم من يتحدثون فيها ويفتون ويقررون؛ لباس المرأة ومسألة الإفراط فى الزواج والطلاق، ها هو يدخل إلى عش الدبابير ويحيلها إلى قضية رأى، أو وجهة نظر.. خطأً وصوابًا، الصالح والطالح، بعيدا عن التحريم والتحليل، لذا كان لا بد أن يصبح رأس الذئب الطائر.