في يوم 12 سبتمبر من كل عام، تحتفل الكنيسة بذكرى استشهاد يوحنا المعمدان، أحد أعظم مواليد النساء، وحبيب المسيح ، الذي لم يُعَد مثله بحسب شهادة الرب نفسه.حياته مليئة بالإيمان والشجاعة، وتجسيد لأسمى قيم الإيثار في سبيل الحق. في هذا اليوم، نُعيد اكتشاف شخصية يوحنا المعمدان، الذي ظل حتى يومنا هذا رمزًا للنقاء والشجاعة في وجه الشر، ولقدرة الإيمان على الانتصار في أصعب الظروف.
يوحنا المعمدان، الاسم الذي يحمل بين طياته عبق التاريخ وعمق الروحانية، هو ابن زكريا الشيخ وزوجته أليصابات، من نسل هارون. في زمن كانت فيه العقم يطغى على حياة العائلة، جاءت معجزة ميلاده لتكون رسالة أمل لجميع المؤمنين. جاء الملاك جبرائيل إلى زكريا ليبشره بميلاد ابن عظيم، ليس فقط لوالديه بل للعالم كله، الذي كان في انتظار هذا النبي الذي يهيئ الطريق للمسيح. وُلد يوحنا قبل ولادة المسيح بستة أشهر، في وقت كان فيه الليل يطغى على النهار، ليكون رمزيًا لفرج الشمس التي ستشرق قريبًا. كان ميلاده بمثابة بداية جديدة للزمن، بداية تشرق فيها بشائر الخلاص.
عاش يوحنا حياة متقشفة، متبعًا مثال إيليا النبي. كان يعيش في صحراء يهودا، يرتدي ملابس خشنة من وبر الإبل، ويقتات على جراد وعسل بري. كان صوته يرن في أرجاء الصحراء، يدعو الناس للتوبة والعودة إلى الله. تميزت حياته بالزهد والتواضع، لكنه كان صريحًا وشجاعًا في مواجهة الشرور. كان ينادي الناس بالتوبة، وكان يشير بأصابع الاتهام إلى الفاسدين والمستبدين، من دون تردد. حياة يوحنا كانت تجسيدًا للصدق والشجاعة في الدفاع عن الحق، حتى وإن كان الثمن هو الحياة ذاتها.
بدأت كرازة يوحنا في سنة 26 ب. م، حيث جذب الناس إليه من جميع أنحاء فلسطين. كان يعمد التائبين في نهر الأردن، معبرًا عن نقاء الروح وتجديد الحياة. ولكنه لم يكتفِ بالدعوة للتوبة فقط، بل انتقد بجرأة تامة فساد السلطات، فكان لهيرودس أنتيباس نصيب من انتقاده بسبب زواجه من هيروديا، زوجة أخيه. لم يتوانَ يوحنا عن قول الحق، مهما كانت العواقب. كانت شجاعته في مواجهة الفساد دليلًا على إيمانه العميق وعزيمته الثابتة.
كان استشهاد يوحنا المعمدان بمثابة صرخة حق في وجه الظلم. بعد أن أمر هيرودس بسجنه، جاءت فرصة عيد هيرودس لتنفذ هيروديا، التي كانت تكن حقدًا عميقًا تجاه يوحنا، خطتها الشريرة. أرسلت ابنتها سالومة لرقص رقصة مثيرة ألهبت حماس هيرودس الثمل، الذي قطع وعدًا بمنحها أي شيء تريده. بناءً على رغبة هيروديا، طلبت سالومة رأس يوحنا على طبق، وبهذا الأمر، قطع رأس النبي العظيم، وأصبح هذا الحدث علامة فارقة في تاريخ الاستشهاد.
شهد المسيح بنفسه ليوحنا قائلاً: “لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (مت 11: 11؛ لو 7: 28). كانت هذه الشهادة من الرب تعبيرًا عن عظمة يوحنا ومكانته الخاصة في خطة الله للخلاص. حتى بعد استشهاده، ظل تأثيره قويًا، حيث قام تلاميذه بحمل جسده ودفنه بكرامة. كانت شهادته لحياة المسيح ومعموديته تأكيدًا على رسالته النبوية وإخلاصه العميق.
استمر تأثير يوحنا المعمدان حتى بعد موته، حيث أشار بولس إلى أن هناك من كانوا قد تعمدوا بمعمودية يوحنا (أع 19: 3). كما أن بعض الدراسات تشير إلى أنه كان له تأثير على مجموعة الأسينيين في قمران، مما يعكس مدى عمق تأثيره في عصره. يوحنا المعمدان، بصلابته وإيمانه العميق، يظل رمزًا للثبات في الحق والشجاعة في مواجهة الظلم.
في الختام، تجسد ذكرى استشهاد يوحنا المعمدان، الذي عاش ومات من أجل الحق، أسمى معاني الإيثار والإيمان. نحتفل في هذا اليوم بقديس عظيم، كان ولا يزال نبراسًا للأجيال القادمة، يُذكرنا أن الحق والشجاعة والتفاني في خدمة الله يمكن أن يغير العالم، مهما كانت التحديات. لنستمد من حياته وقوته درسًا في الإيمان والثبات، ولنجعل من ذكراه مصدر إلهام دائم في مسيرتنا الروحية.