منذ ثلاث أعوام ، فقدت مصر أحد أبنائها البررة ورموزها العظيمة، رجل الأعمال الوطني المرحوم محمود العربي ( ١٩٣٢ – ٩ سبتمبر ٢٠٢١ ). لم يكن العربي مجرد رجل أعمال ناجح، بل كان أيقونة للتفاني والإخلاص، وحكاية نجاح ألهبت قلوب المصريين وألهمت الأجيال القادمة. في ذكرى رحيله، نستعرض سيرة هذا الرجل الذي تحول من طفل فقير إلى أسطورة اقتصادية وإنسانية، ونتذكر كيف أثرى حياة العديدين بعمله وإرادته.
بدايات صعبة وصناعة الحلم
وُلد محمود العربي في عام 1932 في قرية “أبو رقبة” التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، في فترة كانت تعج بالصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية. في ظل حياة قاسية، لم يكن لديه من التعليم ما يعينه على مواجهة المستقبل، ولكن كانت لديه إرادة لا تلين. نشأ في بيئة فقيرة للغاية، حيث كان يتعلم منذ صغره كيف يكون الصبر والمثابرة جزءًا من حياته اليومية.
في ظل هذه الظروف، عمل محمود العربي منذ نعومة أظافره في الحقول، حيث كان يجمع دودة القطن، ويتعلم كيف يكون العمل شاقًا ومكافحًا. كانت تلك السنوات هي المدرسة الأولى التي تعلم فيها مبادئ العمل الجاد، وشقت طريقه نحو النجاح. ومع قلة الحيلة، بدأ في بيع الألعاب والبلالين للأطفال في الأعياد، مستفيدًا من رغبة الناس في الفرح. من هذه البدايات البسيطة، بدأ محمود العربي يتطلع إلى أفق أوسع، حيث كانت رؤيته تتجاوز المبيعات الصغيرة نحو بناء إمبراطورية تجارية.
رحلة التحدي وتأسيس إمبراطورية
لم يكتفِ محمود العربي بما حققه من نجاحات صغيرة، بل كانت له طموحات أكبر. قرر أن يبدأ في مجال جديد، وفي أوائل الستينات، سعى مع صديقه للعثور على ممول يدعمهما في مشروع تجاري جديد. هذا البحث قادهما إلى الحصول على خمسة آلاف جنيه، وهي مبلغ كبير جدًا في ذلك الوقت. توجه محمود العربي وصديقه إلى منطقة الموسكي بالقاهرة، وبدأا في تجارة الأدوات المكتبية تحت شعار “البيع الكثير والمكسب القليل”.
كانت هذه البداية بمثابة نقطة تحول في مسيرة العربي التجارية. فقد اعتمد على فلسفة جديدة في التجارة تقوم على توفير السلع بأسعار تنافسية، وهو ما ساعده في جذب العملاء وبناء سمعة قوية. ومع ازدهار المشروع، اتجه نحو سوق الأدوات الكهربائية، مؤسسًا في عام 1964 شركة “العربي للأدوات الكهربائية”. كان العربي يدرك أن النجاح لا يتحقق إلا بالاستفادة من التجارب العالمية، ولهذا سافر إلى اليابان بشكل متكرر، مستفيدًا من خبرات هذا البلد الذي كان يعيد بناء نفسه بعد الحرب العالمية الثانية.
فلسفة النجاح واستثمار الإنسان
ما يميز محمود العربي عن غيره هو فلسفته العميقة في مجال الأعمال. لم يكن النجاح بالنسبة له مجرد تحقيق الأرباح، بل كان ينظر إلى الاستثمار في البشر كعامل أساسي. فقد بدأ شركته بعامل واحد، ومع مرور الوقت، توسعت الشركة لتصبح لديها أكثر من 38 ألف عامل، مما يعكس حجم النجاح الذي حققه.
فلسفة العربي في الأعمال كانت ترتكز على قيم إنسانية عميقة. كان يرى أن التاجر الناجح هو من يجمع بين الأخلاق والأمانة والرحمة. كان شعار “التاء تعني التقوى، والألف تعني الأمانة، والجيم تعني الجراءة، والراء تعني الرحمة” هو ما يوجه أعماله. وقد تجلى هذا الشعار في ممارساته اليومية، حيث كان يعامل عماله كأفراد من عائلته، واهتم بحقوقهم بشكل كبير. كانت هذه القيم الإنسانية هي التي جعلت من شركته ليس فقط واحدة من الشركات الرائدة في مجال الأدوات الكهربائية، ولكن أيضًا مؤسسة تُقدّر الأفراد وتدعمهم.
التنمية المجتمعية والخيرية
إلى جانب نجاحه التجاري، كان لمحمود العربي دور كبير في مجال العمل الخيري والمجتمعي. فقد كان يؤمن بأن النجاح الحقيقي لا يقاس بالمال فقط، بل بما يقدمه للآخرين. أسس العديد من المؤسسات الخيرية، وقدم الدعم للمدارس والمستشفيات، وساهم في توفير المنح الدراسية للطلاب الفقراء. لم يكن يتباهى بهذا الدعم، بل كان يقدمه بصمت وبكل تواضع، مكرسًا حياته لخدمة الآخرين.
كان دائمًا يسعى لرؤية البسمة على وجوه الفقراء والمحتاجين، ويعتبر أن تقديم العون لهم هو جزء من رسالته في الحياة. ومن خلال أعماله الخيرية، قدم نموذجًا يحتذى به في كيفية استخدام النجاح المالي لخدمة المجتمع وتحسين حياة الناس.
التكريم والاعتراف
نتيجة لجهوده البارزة، حصل محمود العربي على العديد من الجوائز والتكريمات. فقد تم تكريمه من قبل الحكومة المصرية عام 2009 بوسام “العطاء المميز”، وذلك تقديرًا لمساهماته الكبيرة في خدمة المجتمع. كما حصل على العديد من الجوائز العالمية من دول مثل اليابان، التي اعتبرت العربي نموذجًا للنجاح والابتكار في عالم الأعمال.
إرث لا يُنسى
رحيل محمود العربي في سبتمبر من العام الماضي عن عمر يناهز 89 عامًا كان خسارة كبيرة لمصر، ولكنه ترك وراءه إرثًا خالدًا من النجاح والعطاء. فقد كانت حياته مثالاً على كيف يمكن للشخص أن يحقق النجاح بينما يظل مخلصًا لقيم الإنسانية والأخلاق.
في ذكرى رحيله، يبقى محمود العربي مصدر إلهام للأجيال القادمة، ليس فقط من خلال نجاحه المالي، ولكن من خلال قيمه الإنسانية ورؤيته للتجارة كوسيلة لخدمة المجتمع. رحيله لم يكن نهاية لتأثيره، بل بداية لاستمرارية إرثه الذي سيظل خالداً في ذاكرة المصريين.
قصة محمود العربي هي قصة رجل استطاع أن يحقق المستحيل، وأن يبني إمبراطورية تجارية ضخمة دون أن يفقد إنسانيته. في ذكرى رحيله، نعيد التأمل في سيرته العطرة ونتذكر كيف أن النجاح الحقيقي لا يأتي إلا من خلال الإخلاص والتفاني، وكيف يمكن للإنسان أن يترك أثراً إيجابياً في حياة الآخرين من خلال العمل الجاد والرحمة.