في يوم من الأيام، خلال لقاء إعلامي مع الكاتب الكبير ممدوح الليثي، سُئل عن أفضل كاتب سيناريو في مصر. الجواب الذي أتى به لم يكن متوقعاً للكثيرين، فبينما انتظر الجميع أن يذكر أسماءً لامعة مثل أسامة أنور عكاشة أو وحيد حامد أو محسن زايد أو عاصم توفيق، جاء الرد غير المعتاد: “عاطف بشاي”. هذا الاسم الذي ربما لم يحظَ بالشهرة الواسعة التي استحقتها موهبته، يظل علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية. ولكن من هو عاطف بشاي، ولماذا كان ممدوح الليثي على يقين بأنه الأفضل؟
مقدمة: عاطف بشاي والسينما المصرية
عاطف بشاي، الكاتب والسيناريست الذي قدم ما يقرب من 60 عملاً للشاشة، لم يكن مجرد كاتب سيناريو تقليدي، بل كان نموذجاً للمبدع المثقف، الذي يتجاوز حدود الفن ليصبح صوتاً للعقلانية والاستنارة. عمله لم يقتصر على الكتابة فقط، بل جاهد بقلمه من أجل تعزيز فكرة المواطنة، وثقافة التسامح، وحرية الرأي، ومقاومة التخلف والتطرف والجمود. ومع ذلك، لم يحظَ بالتقدير الذي يستحقه، وتعرض للإقصاء والتهميش، مما ترك أثراً عميقاً في نفسه وفي مشواره الفني.
البدايات: ملامح من حياة عاطف بشاي
ولد عاطف بشاي في مصر لعائلة قبطية مسيحية، وتربى في بيئة تؤمن بالتعددية والتسامح. منذ صغره، أظهر بشاي شغفاً بالفن والكتابة، وبدأ مسيرته كمؤلف وكاتب سيناريو في وقت كانت فيه السينما المصرية تمر بمرحلة انتقالية. كانت السينما في تلك الفترة تحت تأثير توجهات سياسية واجتماعية متنوعة، مما جعل بشاي، بعقله المستنير وثقافته الواسعة، قادراً على التعبير عن قضايا مجتمعية معقدة بطريقة سهلة وممتعة للجمهور.
الإبداع الكوميدي: بين السخرية والعمق
عندما نتحدث عن الكوميديا في أعمال عاطف بشاي، لا يمكن إلا أن نلاحظ الذكاء في تركيب المواقف وتوظيف الحوار. في زمن أصبحت فيه الكوميديا تعتمد بشكل كبير على الإسفاف والإضحاك السطحي، كان بشاي يقف كواحد من الكتاب الذين يفهمون أن الضحك يمكن أن يكون أداة لنقل أفكار عميقة. أعماله مثل “فوزية البرجوازية”، “ناس وناس”، و”يا نساء العالم اتحدوا” لم تكن مجرد أعمال كوميدية، بل كانت تعليقات ساخرة على الواقع، مليئة بالحس الفكاهي الذكي الذي يمزج بين السخرية والحزن.
إن دراسة أسلوب بشاي في الكوميديا تُظهر فهماً عميقاً للنفس البشرية ولمجتمعه. فبينما يبدو أن العديد من الكتاب المعاصرين يتبنون أسلوباً مباشراً في الكوميديا، كان بشاي يفضل الأسلوب المبطن، الذي يحمل في طياته معاني متعددة ويترك للجمهور حرية تفسير الموقف. وبهذا الأسلوب، استطاع بشاي أن يجعل الضحك وسيلة لتأمل الواقع، وليس فقط للتسلية.
الإقصاء والتهميش: معاناة جيل كامل
رغم نجاحاته الفنية وإبداعاته المتعددة، لم يكن مسار بشاي في عالم السينما مفروشاً بالورود. فقد اشتكى كثيراً من إقصاء جيله لسنوات طويلة. وبالرغم من روحه المرحة وحسه الكوميدي، كان يختبئ خلف هذه الضحكات شعور بالمرارة واليأس من واقع السينما المصرية التي لم تقدر موهبة جيله بما يكفي.
هذا الإقصاء لم يكن مجرد حالة فردية، بل كان جزءاً من مشكلة أكبر تواجهها العديد من المواهب السينمائية في مصر، خاصةً تلك التي كانت تعمل في فترة تغيرات اجتماعية وسياسية كبيرة. هؤلاء المبدعون الذين بنوا عقل الأمة وصاغوا قوتها الناعمة، وجدوا أنفسهم في النهاية مهمشين، غير قادرين على الحصول على الفرص التي يستحقونها.
إن تجاهل هؤلاء الكتاب والمخرجين والفنانين من قبل صناعة السينما لم يكن سوى علامة على التغيرات الجذرية التي شهدتها مصر خلال العقود الأخيرة. فبينما كانت السينما في الماضي مكاناً للتعبير الحر والإبداع، أصبحت اليوم أكثر اعتماداً على القوالب النمطية والمحتوى التجاري الذي يهدف فقط إلى الربح السريع، متجاهلاً بذلك القيم الفنية والثقافية التي حملها جيل عاطف بشاي.
الإرث الفني والفكري: ماذا ترك لنا عاطف بشاي؟
ترك عاطف بشاي وراءه إرثاً فنياً غنياً ومتنوعاً. أعماله التي تجاوزت الستين، شملت أفلاماً ومسلسلات تلفزيونية، بل وامتدت إلى المسرح. كل عمل من أعماله يحمل في طياته رسائل اجتماعية وثقافية، ويعكس قيم التسامح والتعددية التي آمن بها. لكنه لم يترك فقط أعمالاً فنية، بل ترك لنا نموذجاً يحتذى به في كيفية استخدام الفن كأداة للتغيير.
كان بشاي مؤمناً بأن السينما يجب أن تكون مرآة للمجتمع، تعكس مشاكله وطموحاته وآماله. ولذلك، لم يتردد في تناول قضايا حساسة مثل التطرف الديني، والتمييز العرقي، وحقوق المرأة، وغيرها من القضايا التي كانت تعتبر في ذلك الوقت “محظورة” أو “شائكة”. وبفضل هذه الجرأة، أصبح بشاي رمزاً للفنان الذي لا يخاف من مواجهة التحديات، والذي يفضل الصدق الفني على الشهرة التجارية.
المواطن العالِم: بين الدين والدولة
كونه مسيحياً علمانياً مستنيراً، كان لعاطف بشاي نظرة خاصة للعلاقة بين الدين والدولة. في مجتمع يغلب عليه الطابع المحافظ، حيث تلعب الدين دوراً كبيراً في الحياة العامة والخاصة، كان بشاي يدعو إلى الفصل بين الدين والدولة. لم يكن يدعو إلى العلمانية بمعناها المتطرف، بل كان يرى أن الدين يجب أن يكون أمراً شخصياً بين الفرد وخالقه، وأن الدولة يجب أن تكون محايدة في هذا الشأن، تضمن حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
هذه الرؤية كانت واضحة في أعماله، حيث تناول فيها قضايا التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، مشدداً على ضرورة احترام التنوع الديني والثقافي. لقد كان يرى أن قوة المجتمع المصري تكمن في تعدديته، وأن أي محاولة لفرض نمط واحد من التفكير أو العقيدة ستؤدي إلى تقسيم المجتمع وإضعافه.
الجانب الشخصي: صديق وأخ وإنسان جميل
لم يكن عاطف بشاي مجرد كاتب أو مبدع، بل كان صديقاً وأخاً للكثيرين في الوسط الفني وخارجه. كان يتمتع بشخصية دافئة ومحببة، يجذب إليه الناس بحسه الفكاهي وابتسامته التي كانت تخفي وراءها الكثير من الألم. وعلى الرغم من الظلم الذي تعرض له، إلا أنه لم يفقد إيمانه بالإنسانية ولم يتخلَ عن مبادئه.
كان بشاي يعبر عن مشاعره وأفكاره بأسلوب مباشر وصريح، ولكنه لم يكن قاسياً أو حاداً. كان دائماً يحمل في قلبه محبةً للآخرين، حتى أولئك الذين ظلموه أو أساؤوا إليه. كان يؤمن بأن الفن يجب أن يكون وسيلة للتواصل بين البشر، وأن الحب والتسامح هما المفتاح لتحقيق ذلك.
خاتمة: هل اختار بشاي الرحيل وحيداً؟
في إحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز، يتحدث الكاتب عن البطريق الذي يرشد الصغار لعبور النهار من الخطر، ثم يشرف على الموت ويختار أن يختفي ليموت وحيداً. هذه العبارة تلخص بشكل كبير ما حدث لعاطف بشاي في أيامه الأخيرة. بعد سنوات من الإبداع والعطاء، شعر بشاي أنه قدم كل ما لديه، وأنه حان الوقت للرحيل. ولكنه رحيل لم يكن مصحوباً بالتكريم أو الاحتفاء، بل كان مصحوباً بالكثير من الألم والاكتئاب.
لم يكن بشاي يسعى للشهرة أو المال، بل كان يسعى للصدق في فنه ولتحقيق تغيير حقيقي في المجتمع. ولكن هل كان الإقصاء الذي تعرض له نتيجة للظروف المحيطة به؟ أم أنه كان نتيجة لطبيعة السينما المصرية التي غالباً ما تتجاهل المواهب الحقيقية لصالح الربح السريع؟ أم أن بشاي نفسه اختار الابتعاد والرحيل بكرامته؟
مهما كانت الإجابة، فإن إرث عاطف بشاي يظل حاضراً بيننا. أعماله ستبقى شاهدة على موهبته، وعلى رؤيته العميقة للمجتمع، وعلى إيمانه بأن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتغيير والتحرر. ومع رحيله، نفقد جزءاً من قوة مصر الناعمة، ولكن يبقى يبقى إرثه جزءاً من ذاكرة السينما المصرية، ودرساً لا يُنسى في كيفية استخدام الفن كأداة للتعبير عن القيم الإنسانية النبيلة.
الاحتفاء والتقدير: غياب التقدير المستحق
رغم الإنجازات الفنية الكبيرة لعاطف بشاي، فإن التقدير الرسمي والشعبي الذي حظي به لم يكن في مستوى تلك الإنجازات. قد يكون ذلك جزءاً من مشكلة أعمق تتعلق بكيفية تعامل المجتمع المصري مع رموزه الفنية والثقافية. فغالباً ما يتم الاحتفاء بالفنانين بعد رحيلهم، وتغيب عنهم الأضواء في حياتهم. في حالة عاطف بشاي، لم يكن الأمر مختلفاً؛ فقد رحل عن عالمنا دون أن يحظى بالتكريم الذي كان يستحقه في حياته.
يمكن القول إن عاطف بشاي يمثل نموذجاً للمبدعين الذين يعملون بصمت، دون ضجيج أو بحث عن الشهرة. لكنه، في الوقت نفسه، كان يدرك تماماً قيمة ما قدمه، وكان يعرف أن أعماله ستظل خالدة في ذاكرة الأجيال القادمة، حتى وإن لم يحظَ بالتكريم الذي كان يستحقه.
النقد الاجتماعي والسياسي: ما بين السخرية والواقع
كانت أعمال عاطف بشاي تتميز بأنها تجمع بين النقد الاجتماعي والسياسي من خلال أسلوب ساخر مميز. فقد كانت لديه القدرة على تسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية والسياسية في مصر بطريقة كوميدية.
إرث بشاي في السينما المصرية: درس للأجيال القادمة
ما تركه عاطف بشاي من أعمال فنية لم يكن مجرد مجموعة من الأفلام والمسلسلات، بل كان تجسيداً لروح فنان مبدع عاش حياته ملتزماً بمبادئه، وراغباً في تغيير الواقع من خلال فنه. لم يكن بشاي يكتب ليحقق النجاح التجاري أو لينال إعجاب النقاد، بل كان يكتب لأنه كان يؤمن بأن لديه رسالة يجب أن يوصلها.
بالنسبة للأجيال الجديدة من السينمائيين والكتاب، يمثل بشاي درساً في الإخلاص للفن والالتزام بقضايا المجتمع. في عالم يسعى فيه الكثيرون إلى تحقيق النجاح السريع والربح المادي، تأتي تجربة عاطف بشاي لتذكرنا بأن الفن الحقيقي هو الذي ينبع من الصدق والالتزام، وهو الذي يتجاوز الزمن ليظل حاضراً في الذاكرة الجماعية للأمة.
الأصدقاء والعائلة: حزن الفراق
على المستوى الشخصي، كان رحيل عاطف بشاي خسارة كبيرة لأصدقائه وعائلته. كان شخصاً محباً للجميع، صديقاً وفياً، وأخاً حنوناً. ورغم أن حياته كانت مليئة بالإنجازات، إلا أنها كانت أيضاً مليئة بالتحديات والصعوبات التي واجهها بصبر وإصرار. لم يكن بشاي مجرد كاتب، بل كان إنساناً يحمل قلباً كبيراً وروحاً مرحة، حتى وإن كانت تلك الروح مخضبة بالحزن أحياناً.
الخاتمة: إرث لا يموت
يمكن القول إن عاطف بشاي رحل عن عالمنا، ولكنه لم يرحل عن ذاكرتنا. أعماله ستظل حية، تتحدث عنه وتذكرنا بموهبته الفذة ورؤيته العميقة للمجتمع والفن. وربما يكون أفضل تكريم لعاطف بشاي هو أن نواصل استكشاف أعماله، وأن نتعلم منها كيف يمكن للفن أن يكون أداة للتغيير والتعبير عن قيمنا الإنسانية المشتركة.
عندما نفكر في عاطف بشاي، لا نفكر فقط في الكاتب السيناريست، بل نفكر في الإنسان المثقف، المحب لوطنه، الذي قضى حياته مدافعاً عن القيم التي يؤمن بها. قد يكون اختار أن يرحل بهدوء، مثل البطريق الذي تحدث عنه ماركيز، ولكنه لم يرحل إلا بعد أن ترك لنا كنزاً من الأعمال التي ستظل خالدة، تذكرنا به وبالرسائل التي أراد أن يوصلها.
في النهاية، لا يسعنا إلا أن نقول: وداعاً عاطف بشاي، فقد أسعدتنا بأعمالك وأثريت حياتنا بفنك وفكرك، وسيبقى ذكراك حياً في قلوبنا وعقولنا إلى الأبد.