فى البيوت المسيحية الطيبة تتصدر صورة قداسة البابا شنودة الثالث، تزين حجرة الصالون، أيقونة يتباركون بها، يطل عليهم من صورته بعيون حانية، ملؤها المحبة، كالملاك الحارس، وظل طيب الذكر حارسا على ثغور كنيسة الوطن حتى تنيح، فشيعته القلوب كسيرة، والعيون دامعة، ورغم الغياب لا يزال حضوره نورا في الكنيسة المصرية ..
ذكريات عبرت، في مئوية قداسة البابا شنودة تتداعى الذكريات الطيبة، ترك فينا ما نحبه، ومحبته كانت سره، وابتسامته كانت عنوانه الأثير، ذكريات مع بابا استثنائي، كارزماتي، كاريزما البابا شنودة يتحدث بها وعنها المحبون، وأحبه خلق كثير ..
**
كان الخطب رهيبًا، والجرح غائرًا، مجزرة بشعة دبرتها أشباح متسربلة بالسواد، ففي الساعة الثانية عشرة و ٢٢ دقيقة من منتصف ليل أول يناير ٢٠١١ ، ومع الدقائق الأولى لولادة العام الجديد من رحم التاريخ، فجر انتحاري نفسه بعبوة أطاحت بـ«كنيسة القديسين» والمسجد والعقارات المجاورة، حتى أن سكان الشوارع خرجوا لاستطلاع الحدث المدوي الذي أسفر وفق بيانات وزارة الصحة المصرية الرسمية عن سقوط ٢١ شهيدًا و٩٧ مصابًا، أغرقت دماؤهم الشوارع .
صُدمت، وتألمت، وحزنت وأنا أطالع مصدرًا كنسيًا داخل المقر البابوي يخبرنا حزينًا: «بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا شنودة الثالث يدرس إلغاء مظاهر احتفالات قداس عيد الميلاد، بسبب تفجير الكنيسة في الإسكندرية، وأن البابا تلقي خبر التفجير في مقره في دير «الأنبا بيشوي» في وادي النطرون بصدمة بالغة، وبحث مع الأساقفة إلغاء احتفالات قداس عيد الميلاد».
وفي ظل الحزن الذي يُجلّل الأقباط، وحالة الحداد المعلنة في البلاد على ضحايا كنيسة القديسين بالإسكندرية، كنت ضيفًا على التليفزيون المصري في برنامجه الشهير «البيت بيتك» ودعوت قداسة البابا شنودة -نيّح الله روحه- بالعدول عن قراره المستبطن بإلغاء مظاهر احتفالات قداس عيد الميلاد.
كنت مذبوحًا من الألم، وقلت فيما قلت إني كمسلم أنتظر احتفالات الميلاد من السنة للسنة، ولي في الاحتفال مال لإخوتي الأقباط، وعيد الميلاد عيد مصري وليس مسيحيًا فحسب، وقلت لو ألغيت المظاهر حقق الإرهاب هدفه، وكان حديثي حزينًا لدرجة تحشرج صوتي، وكادت الدموع تطفر من عيني، وأنا أصلاً دمعتي قريبة، وارتجافة شفتي السفلي تفضحني وبكيت في الفاصل.
تماسكت قليلاً لأتلقى مداخلة من الأنبا «يوأنس» سكرتير البابا يستنكف دعوتي للاحتفال، كان حزينًا في لفظه، فلم أشأ أن أجرح مشاعره الطيبة، ومررتها تعاطفًا مع ألمه، وحتى لا أبدو جارحًا لمشاعر إخوتي، وعدت في نهاية الحلقة الكئيبة إلى مخدعي متألمًا، مبلسمًا جراحي، وقلت في سري قول بولس الرسول إلى أهل رومية ” فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ».
نهضت صباحًا ، وكتبت ما عنوانه «قُدّاسك يا وطن» بعاطفة جياشة جاشت حتى أغرقت الورق بالدموع (قبل اختراع الآي باد) وحررت ما نصه حزينًا:
«بمزاج كئيب، وبروح كسيرة، وبقلب مكسور
استنكف الأنبا يوأنس دعوتي أن يكون ميلادًا باهرًا، قداسًا عالميًا، قداسك يا وطن.. تصدح في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وإبراشياتها وكنائسها وأديرتها بطول وعرض البلاد تراتيل الميلاد المجيد، تدق أجراس الكنائس، تضاء الشموع، وإن ذرفت الدموع، قداسًا بعرض الوطن، يحضره المسلمون قبل الأقباط، يتدافع إليه المسلمون كل من مكانه، كل يهرع إلى أقرب كنيسة، يوقد شمعة، يحمي بروحه قبل جسده إخوته، يمكّنهم من الاحتفال كما يشاءون ويحبون التفكير.
مجرد التفكير، في إلغاء قداس عيد الميلاد حزنًا وحدادًا على الأرواح البريئة ليس حدادًا ولا حزنًا بل انهزامًا.. الحداد الحقيقي أن نقيم القداس لأجلهم، لأرواحهم، أن نقيم القداس لتبقى شمعة الكنيسة «منوّرة» في مصر لا تنطفئ أبدًا، مصر التي احتضنت المسيح في المهد صبيًا ..
التفكير، مجرد التفكير، في إلغاء القداس حزنًا وألمًا بهدف إعلان الألم في كل العالم لن يفيد الأقباط في شيء، و مع كامل احترامي لحزن وألم البابا شنودة، فإن قداسته قادر على تحويل الألم إلى أمل، تصنيع الأمل من حواشي الألم مهمة البشر الموهوبين، والبابا موهوب في قيادة شعبه روحيًا، قادر على بلسمة الجراح، وغسل الأحزان، وحده البابا ــ بعد الله ــ قادر على قيادة شعبه لتخطي المحنة، البابا سيمشي الدرب متكئًا على إخوة مسلمين هزّهم الخطب الجليل.
قداسة البابا لا بد أن يتخارج من حالة الحزن إلى تحد للإرهاب، إلى حالة ألق وطني، يسمو بالحالة المسيحية فوق الجراح، ضحايا المجزرة مصريون، لا نميز بينهم، والبابا مصري، والهم مصري، والألم مصري، كما أن القداس مصري، وعيد الميلاد مصري، والكنيسة مصرية، للمسلمين فيها ما للأقباط، القداس حق عليك، وحق لنا، وحق للوطن، قدّاسك يا وطن».
مثل رش الملح على الجرح لمس مقالي جرحًا نازفًا، وتلقيت رسائل حزينة من أخواتي، الأقباط حزاني لا يكفكف لهم دمع، أغلبها كان صادمًا بالرفض، وأقلها كان مشجعًا، وتلقيت دعوة نادرة من الكنيسة لحضور عيد الميلاد .
عادة لا أتلقي مثلها دعوات ، ولم أسع إليها، ولكنها كانت عطفة باباوية على حُسن المقال، يبدو أنني لمست قلوبًا، وكان قلب البابا شنودة طيبًا.
تشجعت وكتبت «فيض الخاطر» مشجعًا البابا على الخروج من الدير، وإقامة الاحتفال وعدم الاكتفاء بالقداس، لا أعرف لماذا تسلطت الفكرة على قلبي قبل عقلي، كنت أخشى هزيمة أمام الإرهاب، خشيت انكسارًا ينتهي باندحار..
كتبت إلى البابا شنودة راجيًا في إلحاح وطني دافق بالمحبة :” فليخرج من ديره الذي اعتكف، وليمسك صليبه الذي يتوكأ، وليُقمْ قداس ميلاد لم تر مثله البلاد. المسلمون قبل الأقباط يتوقون لاحتفال يبدد الظلمة، وينير الليل، يمسح الأحزان، ويبلسم الجروح، قداس نفرح فيه بوحدتنا، ننبذ فيه فُرْقتنا، ننشد جميعا المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».
قداس لم ير الميلاد مثله، لم تر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية أجمل منه، قداس مصري وطني خالص يرد على الإرهابيين، تراتيل منغمة تطرد الأرواح الشريرة، وألحان فرحة تبهج النفس التي أرهقتها الخطوب.
«كلنا في الهمّ قبط»، كلنا في الألم مصريون، كلنا محزونون، لست وحدك بابا الأقباط حزينًا، الكل اليوم حزين، نشاطركم الأحزان.
فلتخرج من ديرك وتنصت إلى دعوات المسلمين الحقيقيين الذين علَّمهم رسولهم الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، البر بأهل الكتاب، لتنصت لغضبهم ورفضهم وإدانتهم للإرهاب والإرهابيين، وللتطرف والمتطرفين، مَنْ ضرب كنيسة القديسين لم يقصد الكنيسة وأولادها، كان يقصد مصر وأولادها.. أولاد الكنيسة أولاد مصر رغم أنف المتطرفين.
أكلما جاء عيد الميلاد يطفئون الشموع؟.. إذن، فلتضأ الشموع، ولتصدح الألحان، ولتدق الأجراس، وليحضر المسلمون أعياد الميلاد جنبًا إلى جنب مع إخوانهم الأقباط، أعياد الميلاد هذا العام في حضرة المسلمين، احموهم من غدر الغادرين، وإجرام المجرمين.
فليخرج البابا من ديره، مكفكفًا دمعه، مبلسمًا جراح شعبه، ممسكًا بيد فضيلة الإمام الأكبر داعيًا الله أن يرحم مصر وأهلها، كيرياليسون، كيرياليسون، يارب ارحم، ارحمنا من الهوس والمتهوّسين، أعدائك أعداء الدين، ارحمنا من دعاة الفتنة، من هواة الصيد في الماء العكر، من المتبضعين بالقضية والعاملين عليها، والمتاجرين فيها، المتأقبطين منهم والمتأسلمين.. ارحمنا من قلوب قست فصارت كالحجارة أو أشد قسوة، ومن أقلام سيَّالة بالحقد الدفين، مَنْ كتب أو تكلم أو اجتهد فليقل خيرًا أو ليصمت.
فلنهشَّ البوم عن أغصان الوطن، فلتحط حمامات السلام علي الغصن الأخضر، هديل الحمام، هديل السلام، تراتيل الرهبان، تسابيح القساوسة، أدعية الصباح، أذان الفجر، تجلّي تواشيح فاتحة النهار، أمنيات عام جديد، كعك العيد، صخب الكنائس، فرحة الأطفال، أطفال «تانت تريزا» يلهون في الحوش، حوش الوطن، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون طالما هناك بيوت يذُكر فيها اسمه، اسم الله، الله محبة.. الخير محبة.. النور محبة، هكذا كان يعتقد طيب الذكر البابا شنودة الثالث طيب الله ثراه .. وخرج من ديره الذى اعتكف فيه ليقيم قداس عيد الميلاد ..