على مدار السنوات الثلاث عشر عاما الماضية، واجهت مصر تحديًا وجوديًا كبيرًا تمثل في مشروع سد النهضة الإثيوبي. هذا المشروع الذي أثار الكثير من الجدل والصراع بين مصر وإثيوبيا، قد يكون أحد أكبر الكمينات التي تعرضت لها مصر في تاريخها الحديث. ومع إعلان إثيوبيا مؤخرًا انتهاء البناء، يتضح أن مصر تمكنت من النجاة من هذا الفخ، فيما يبدو أن الشعب الإثيوبي قد تعرض لخيبة أمل كبيرة.
سد النهضة: مشروع كبير بفشل مدوي
عندما أعلنت إثيوبيا في الأمس عن انتهاء بناء سد النهضة، كان يفترض أن يكون هذا اليوم يومًا مشرقًا في تاريخ البلاد. إلا أن هذا الإعلان كشف عن حقيقة مريرة: فشل المشروع في تحقيق الأهداف التي وعدت بها الحكومة الإثيوبية شعبها. فبدلاً من أن يكون السد مصدرًا للطاقة والتنمية الاقتصادية، تحول إلى حاجز لمجرد بحيرة من المياه بسبب الأخطاء الهندسية التي صاحبت عملية البناء.
الشركات التي كانت تعاقدت معها إثيوبيا لتنفيذ المشروع، ومنها شركات إيطالية وصينية، اضطرت إلى الانسحاب بسبب تلك الأخطاء الهندسية الفادحة. الأخطاء التي لم تقتصر فقط على تصميم السد ولكنها امتدت لتشمل تشغيل التوربينات، مما أدى إلى فشل السد في توليد الكهرباء بكفاءة. وهذه النقطة تحديدًا شكلت صدمة كبيرة للشعب الإثيوبي الذي كان يأمل أن يكون هذا السد هو الخلاص من الفقر والانقطاع المتكرر للكهرباء.
الاستفزازات الإثيوبية والإخوانية: لعبة على حافة الهاوية
في الوقت الذي كانت فيه إثيوبيا تسعى لاستفزاز مصر، كانت هناك استراتيجية خفية تقوم على جذب مصر نحو اتخاذ قرار عسكري بضرب السد. ولو كانت مصر انزلقت في هذا الفخ، لكانت مضطرة لدفع تعويضات ضخمة على مدى سنوات طويلة، وربما لعقود. لكن الاستراتيجية المصرية كانت أكثر حكمة وحنكة، حيث اختارت التعامل مع الأزمة بروية وذكاء، دون أن تنجر إلى حرب قد تكلفها الكثير.
الواقع أن السد، الذي كان من المفترض أن يكون رمزًا للتنمية والازدهار، لم ينجح حتى الآن في تخزين سوى 50-55 مليار متر مكعب من المياه على مدار 24 عامًا من البناء. هذا الرقم يعكس حجم الفشل الذي يحيط بالمشروع. وفي المقابل، يتدفق نهر النيل نحو مصر كما كان عبر التاريخ، دون أي تأثير حقيقي يُذكر على حصة مصر من المياه.
إدارة مصر للأزمة: انتصار دبلوماسي واستراتيجي
منذ بداية المشروع في عام 2011، كانت مصر واضحة في هدفها: إطالة فترة ملء السد لتستغرق 7 سنوات بدلاً من الثلاث سنوات التي كانت إثيوبيا تعتزمها. الهدف من هذا التمديد كان ضمان تدفق المياه بشكل مستدام ودون التأثير السلبي على حصة مصر من المياه.
وفي هذا السياق، يبرز السد العالي في مصر كواحد من أكبر إنجازات الهندسة البشرية. السد، الذي تم بناؤه منذ 75 عامًا، يحتجز خلفه حوالي 180-200 مليار متر مكعب من المياه في أكبر بحيرة صناعية صنعها الإنسان في التاريخ. هذا السد لم يكن فقط مصدرًا للطاقة ولمواجهة الفيضانات، بل كان أيضًا رمزًا للقدرة المصرية على إدارة المياه بكفاءة وفعالية.
ما حدث مع سد النهضة يمثل درسًا مهمًا ليس فقط لمصر وإثيوبيا، بل للعالم بأسره. الدروس هنا تتعلق بكيفية التعامل مع الأزمات الوجودية، وتجنب الانجرار نحو ردود الفعل السريعة، والتفكير بحكمة وتخطيط بعيد المدى. مصر تمكنت من تفادي كمين كبير بفضل استراتيجيتها الذكية والصبر الدبلوماسي، بينما وجدت إثيوبيا نفسها تواجه فشلًا لم يكن في الحسبان.
عزائي للشعب الإثيوبي الذي كان يأمل في مستقبل مشرق يتجلى في هذا السد، ولكن يبدو أن الأمل قد تحول إلى خيبة أمل كبيرة. ومبروك لمصر التي أثبتت مجددًا أنها قادرة على حماية مصالحها المائية والاستراتيجية مهما كانت التحديات.