تابعت عددًا من الصحف التي اختزلت القضية الفلسطينية في غزة، متجاهلةً أبعاد الصراع الشامل. ركز البعض على تصوير حركة حماس كممثل وحيد للمقاومة، متناسين الجهود والنضالات التي تقدمها كافة الفصائل الفلسطينية الأخرى. ووسط هذا، نجد من يمجد دور إيران ويهاجم السعودية والإمارات، بينما يتغافل عن دعم مصر المستمر للشعب الفلسطيني. أمام هذه التجاهلات والتشويهات، نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحة للوقوف وقراءة الواقع بشكل أعمق وأشمل.
القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مجرد نزاع سياسي أو ديني، بل هي قضية ذات أبعاد متشابكة تشمل الجغرافيا، التاريخ، الدين، والمصالح الإقليمية والدولية. هذه الأبعاد تجعل المقاومة الفلسطينية ليست مجرد حركة تحرر، بل رمزًا عالميًا للنضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية. من هنا، كان تنوع أدوات المقاومة واستراتيجياتها أمرًا ضروريًا لاستمرار الصمود في وجه الاحتلال، حيث نجد أن المقاومة المسلحة، الشعبية، الثقافية، والدبلوماسية قد شكلت مجتمعة درعًا قويًا يحمي هذا النضال المستمر.
لم تكن المقاومة الفلسطينية حكرًا على فصيل أو عقيدة، بل هي انعكاس لوحدة وطنية شاملة تجمع مختلف الأطياف السياسية والفكرية والدينية داخل المجتمع الفلسطيني. من حماس الإسلامية إلى الجبهة الشعبية ذات الأيديولوجية اليسارية، وصولاً إلى دور الكنائس المسيحية في دعم النضال ضد الاحتلال، نجد أن هذه المكونات تعبر عن تنوع يجسد وحدة الهدف، ويؤكد أن النضال الفلسطيني هو نضال من أجل التحرر من استعمار عنصري يهدف إلى اقتلاع الأرض وتشريد أهلها. هذه الوحدة تعكس أيضًا إدراك الفلسطينيين لحقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى دومًا لتفريق الصفوف الفلسطينية واستغلال أي تباين في الرؤى بين الفصائل لتحقيق أهدافه الاستعمارية.
من هنا، كان التحدي الأكبر أمام المقاومة الفلسطينية هو الحفاظ على وحدة الصف الداخلي. الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى عن استغلال الانقسامات بين الفصائل لتقويض جهود المقاومة، وهذا ما يجعل منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، حجر الزاوية في الحفاظ على هذه الوحدة. الانقسامات الداخلية تمنح الاحتلال فرصة ذهبية لتعزيز سيطرته على الأرض وإضعاف المقاومة، ولهذا فإن توحيد الصف الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير، وتجنب الانفراد بالقرارات المصيرية، بات أمرًا لا غنى عنه لإفشال مخططات الاحتلال.
في هذا السياق، يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام، وإسرائيل تدرك جيدًا قوة هذه الأداة، فتستخدمها لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية. الاحتلال يسعى إلى تصوير المقاومة كحركة إرهابية، متجاهلاً طابعها التحرري والإنساني. عبر وسائل إعلامه، يعمل على اجتزاء الحقائق وتقديمها بشكل يخدم روايته، محاولًا بذلك حرف الأنظار عن حقيقة الصراع. هذه الحرب الإعلامية ليست مجرد صراع على الأرض، بل هي أيضًا معركة على العقول والقلوب، ومن هنا تأتي أهمية بناء صورة إعلامية تعكس الحقيقة، وتبرز المقاومة الفلسطينية كحركة تحرر وطني تشمل كافة فئات الشعب الفلسطيني.
الإعلام الإسرائيلي لم يكتفِ فقط بتشويه صورة المقاومة، بل استخدم أساليب الحرب النفسية لإضعاف الروح المعنوية لدى الشعب الفلسطيني والمتضامنين معه. من خلال نشر الأكاذيب والتلاعب بالحقائق، حاول الاحتلال توجيه الأنظار نحو قضايا جانبية وتشتيت الانتباه عن الجرائم والانتهاكات التي تُرتكب يوميًا بحق الفلسطينيين. لكن في مواجهة هذه الأساليب، أثبت الفلسطينيون قدرتهم على الصمود والتصدي للحملات الإعلامية المغرضة، وذلك من خلال تطوير وسائل إعلام بديلة تنقل الحقيقة وتعزز من وحدة الصف الوطني.
وفي قلب هذا الصراع المتواصل، تلعب مصر دورًا محوريًا لا يمكن تجاهله. فبحكم موقعها الجغرافي وثقلها السياسي، لطالما كانت مصر داعمًا أساسيًا للقضية الفلسطينية. منذ عقود طويلة، وقفت مصر إلى جانب الشعب الفلسطيني في مقاومته للاحتلال الإسرائيلي، سواء على المستوى السياسي أو العسكري. هذا الدعم لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان تعبيرًا عن التزام مصر التاريخي والأخلاقي تجاه فلسطين. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها مصر، سواء من الناحية الداخلية أو الخارجية، إلا أنها حافظت على مواقفها الداعمة للفلسطينيين، إدراكًا منها لأهمية القضية الفلسطينية في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
لكن السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية ليست خالية من التحديات. فمع تزايد الضغوط الدولية وتعقيد الأوضاع الإقليمية، تجد مصر نفسها في موقف يتطلب منها الموازنة بين دعمها الثابت للفلسطينيين والحفاظ على استقرارها الداخلي وعلاقاتها الدولية. ورغم هذه التحديات، تبقى مصر ملتزمة بدعم منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وتجنب دعم أي فصيل على حساب الآخر. هذا الموقف يعكس حرص مصر على تحقيق وحدة الصف الفلسطيني، لأن أي انقسام داخلي من شأنه أن يضعف الموقف الفلسطيني ويعزز من قوة الاحتلال.
في ظل هذه الظروف المتشابكة، نجد أن السياسة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تعتمد بشكل كبير على تأجيج الصراع مع الفلسطينيين كوسيلة للبقاء في السلطة. نتنياهو، الذي يواجه تهديدات سياسية وقانونية داخلية، يسعى جاهدًا لتأجيل أية محاسبة داخلية من خلال تأجيج الصراع الخارجي. هذه الاستراتيجية ليست جديدة، بل هي جزء من سياسة أوسع تستخدم فيها الحكومات الإسرائيلية الصراع مع الفلسطينيين كوسيلة لتوحيد الجبهة الداخلية، وإبعاد الأنظار عن الأزمات الداخلية. الصراع المستمر يسمح لنتنياهو بتجنب محاسبة شعبه على الإخفاقات الداخلية، والتركيز على قضية الأمن القومي التي تحظى بدعم واسع بين الإسرائيليين، مما يجعله مستفيدًا من استمرار حالة الصراع والتوتر.
لكن نتنياهو ليس اللاعب الوحيد في هذه اللعبة السياسية المعقدة. إيران، بدورها، تلعب دورًا لا يقل أهمية في تشكيل مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فمن خلال دعمها لحركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي، تسعى إيران لترسيخ نفوذها في المنطقة والظهور كمدافع عن حقوق الفلسطينيين. هذا الدعم الإيراني، الذي قد يبدو للبعض نابعًا من دوافع دينية، هو في الحقيقة جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز مكانة إيران الإقليمية وتحدي النفوذ الأمريكي والإسرائيلي. ومع تصاعد التوترات حول برنامج إيران النووي، أصبحت القضية الفلسطينية أداة تستخدمها طهران لتحويل الأنظار عن طموحاتها النووية وإشغال المنطقة بصراعات جانبية تخدم مصالحها الاستراتيجية.
لكن الدول الخليجية، وخاصة السعودية والإمارات، باتت أكثر وعيًا للأهداف الإيرانية. فعلى الرغم من تعقيد الأوضاع السياسية في المنطقة، تعمل هذه الدول على تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية، وتبني سياسات أكثر حذرًا في التعامل مع القضية الفلسطينية. تسعى السعودية والإمارات من خلال هذه السياسات إلى مواجهة النفوذ الإيراني والحد من تأثيره في المنطقة، مع الحفاظ على دعمها الثابت لحقوق الشعب الفلسطيني.
في نهاية المطاف، تبقى القضية الفلسطينية اختبارًا حقيقيًا لمبادئ العدالة والحرية على مستوى العالم. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها المقاومة الفلسطينية، إلا أن الوحدة والتضامن بين الفصائل الفلسطينية، وتوجيه الدعم الدولي نحو تحقيق سلام عادل ومستدام، يمكن أن يعزز من فرص الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة. المقاومة الفلسطينية يجب أن تستمر في تنويع استراتيجياتها، مع التركيز على تعزيز الصورة الإعلامية الإيجابية، وتحقيق الوحدة الوطنية، والاستفادة من الدعم الإقليمي والدولي. في الوقت نفسه، ينبغي أن تتبنى المقاومة استراتيجية واضحة لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية، بما في ذلك التحالفات والتدخلات الخارجية التي تسعى لاستغلال الصراع لصالحها.
بهذا الوعي الكامل بتعقيدات الصراع، والاستعداد للتكيف مع المتغيرات، وتبني نهج شامل يجمع بين المقاومة المسلحة والنضال السياسي والإعلامي والدبلوماسي، يمكن للشعب الفلسطيني أن يواصل نضاله نحو الحرية والاستقلال، ويظل قضيته حية في ضمير العالم.