عرفت مصر «المكان» ظاهرة الصحافة نهاية القرن الثامن عشر مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1798م، حيث أصدرت صحيفتين باللغة الفرنسية استمرتا حتى رحيل الحملة عام 1801م، وإن عرف المصريون ظاهرة الصحف مع محمد على والى مصر الذى أسس جورنال الخديو، ثم الوقائع المصرية عام 1828م، ومن بعدها توالت الصحف الرسمية والأهلية/ الخاصة والحزبية، فكانت مصر أول دولة عربية تعرف ظاهرة الصحافة.
ومؤخرًا أعلنت نقابة الصحفيين عن تدشين مشروع رقمنة أرشيف الصحافة المصرية، وإحياء كنوزها التاريخية، التى يرجع بعضها لأكثر من قرن مضى، مع البدء فى تطوير مكتبة النقابة، ورقمنتها وفقًا للأساليب العلمية الحديثة، وحسب بيان النقابة فإن المشروع يهدف إلى تطوير المكتبة واستفادة الصحفيين والباحثين من المقتنيات النادرة من الكتب والأرشيف الصحفى، ووثائق الصحافة المصرية عبر العصور، بالإضافة إلى تعريف الجماعة الصحفية بسيرة ومسيرة الكتّاب الراحلين، الذين كان لهم باع طويل فى توهج الصحافة المصرية وريادتها.
وأضاف البيان أنه من المقرر أن يبدأ الدكتور خالد عزب، خبير التوثيق ومشروعات الرقمنة، أعمال تطوير ورقمنة المكتبة، وأرشيف الصحافة المصرية بعد موافقة مجلس النقابة على إشرافه على المشروع بوصفه مستشارًا لنقابة الصحفيين للتوثيق وتطوير المكتبة، وبناء أرشيف رقمى للصحافة المصرية.
فى هذا الإطار أود الإشارة إلى بعض الرؤى والأفكار.
أولًا: يُعد تاريخ الصحافة المصرية جزءًا أصيلًا من تاريخ الوطن مصر، ويُعد الاستمرار فى دراسته وتدريسه واجبًا وطنيًا، باعتبار التاريخ ذاكرة الأمة، ولتاريخ الصحافة له دور كبير فى تشكيل الهوية الوطنية للصحفيين، وتحقيق التواصل بين الأجيال، ويسهم فى ترسيخ الانتماء للوطن، ويمكن الاستفادة منه فى علاج مشكلات آنية معاصرة.
ثانيًا: يُمثل التاريخ خطًا زمنيًا يبدأ بالماضى ويمر بالحاضر ويصل إلى المستقبل، ومن هنا فإن دراسة تاريخ الصحافة تساعد على فهم الكثير من الظواهر المجتمعية للحاضر الذى نعيشه، ثم الانطلاق نحو المستقبل الذى نتطلع إليه.
ثالثًا: تساعد بحوث تاريخ الصحافة المصرية فى اكتشاف التاريخ الاجتماعى والثقافى للمواطنين المصريين خلال سنوات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بل إن دراسة تاريخ الصحافة تُسهم أيضًا فى دراسة التاريخ السياسى والاقتصادى للمصريين، فالصحف، على مختلف أشكالها وتنوع مضامينها، وكما هو متفق عليه بين المؤرخين، بمثابة سجل يومى للقضايا والأحداث فى مختلف الأنشطة والمجالات، ما يساعد فى تدوين تاريخ المصريين الحديث والمعاصر، من خلال رؤية بحثية شاملة، تأخذ فى الاعتبار الأبعاد المجتمعية المختلفة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
رابعًا: تنطوى الصحف المصرية على فنون صحفية متنوعة منها الخبر والتحقيق والحوار والمقال، بالإضافة إلى رسوم الكاريكاتير والصور الصحفية التى وثقت الكثير من المواقف الوطنية والأحداث الإقليمية والدولية فى مختلف المجالات.
خامسًا: على الرغم من إنجاز العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه فى مجال تاريخ الصحافة، بالإضافة إلى عشرات البحوث المنشورة فى دوريات علمية أو المقدمة فى مؤتمرات علمية، إلا أنه مازال مجالًا بحثيًا مفتوحًا أمام الجديد من البحوث والدراسات، سواء بشكل فردى أو فى إطار عمل جماعى، وإن كنا نتطلع إلى مزيد من تنفيذ بحوث مشتركة وجماعية من خلال التعاون مع فرق عمل تضم عددًا من الباحثين المعنيين بمجال تاريخ الصحافة والتاريخ العام واللغات وغيرها، ما يعظم المساحات المشتركة بين العلوم، ويؤكد التكامل المعرفي.
سادسًا: أدعو نقابة الصحفيين لأن تفتح باب التعاون مع كليات ومعاهد وأقسام الإعلام، والمراكز البحثية فى الجامعات المصرية، ودار الكتب والوثائق القومية، والهيئة العامة للاستعلامات ومكتبة الإسكندرية..، بالإضافة إلى المؤسسات الصحفية، فى مجال تبادل واستكمال الأرشيفات الصحفية ورقمنتها. كما أدعوها لأن تستفيد من صحفييها الباحثين والحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه، وغيرهم من الباحثين الذين يمكنهم التطوع فى هذا المشروع البحثى والعمل الوطني.
سابعًا: أكرر الدعوة لكبار الصحفيين لأجل أن يهتموا بتدوين مذكراتهم وذكرياتهم الصحفية، وأن تهتم كل مؤسسة صحفية بتوثيق وكتابة تاريخها ومسيرتها وتاريخ صحفييها، فهى مسئولية أمام التاريخ وأمام الوطن.
وبالإجمال فإن مشروع نقابة الصحفيين يسهم، مع غيره من جهود وطنية، فى حفظ التراث الثقافى والإنتاج الفكرى للصحفيين وغيرهم من المثقفين والمفكرين، ممن شهدت صفحات الصحف أفكارهم ونتاج أقلامهم وإبداعاتهم فى شتى مجالات الثقافة وفروع المعرفة الإنسانية، ومن هنا تحية واجبة.
أستاذ الإعلام