أمس الخميس، ٢٢ أغسطس، احتفل المواطنون الأقباط «المصريون المسيحيون» بعيد إعلان صعود جسد السيدة مريم العذراء للسماء حسب العقيدة المسيحية، وإذا كانت العذراء مريم تحتل منزلة كبيرة ومكانة مرموقة فى الكنيسة القبطية، فهى تحتل مكانة كبيرة أيضًا فى الثقافة المصرية عامة، حيث تتجلى كرامتها عند المواطنين المصريين، من مسيحيين ومسلمين على السواء، هم يحترمونها ويقدرون مكانتها، يبجلونها ويمدحونها بأجمل الترانيم الدينية وأعذب الأناشيد الروحية، ويكشف الواقع المصرى أن السيدة مريم العذراء قديسة عند المسلمين مثلما هى قديسة أيضًا عند المسيحيين.
إذ يحبها ويكرمها الجميع، يطلبون شفاعتها ودالتها عند الله لقضاء حوائجهم وحل مشكلاتهم، بل إن بعض السيدات المسلمات يصمن صوم السيدة العذراء، الذى يستمر لمدة أسبوعين من ٧ إلى ٢١ أغسطس، تقديرًا وحبًا لها، ومشاركة منهن لزميلاتهن وصديقاتهن المسيحيات، وطلبًا لشفاعتها فى كثير من أمور الدنيا، مثل النجاح والتفوق فى الدراسة وتوفير فرصة عمل والزواج والإنجاب والمرور من ضيقة مالية وعودة السلام للأسرة.. وغيرها من طلبات، بل يتشفعون بها وهم يتطلعون إلى الحياة الأخرى، كشفيعة أمينة لهم أمام الله سبحانه وتعالى، وكثير من الأسر والعائلات يُطلق على بناته اسم «مريم» تبركًا بها وبسيرتها العطرة، بما يعكس حالة مصرية فريدة ومتميزة، ربما لا تجد مثيلًا لها فى بلاد أخرى إلا نادرًا أو قليلًا.
ولعل زيارة إلى واحدة من كنائس العذراء مريم تكشف ذلك، مثل كنائسها فى مسطرد والزيتون ومصر القديمة والمعادى وسخا والمنصورة وبورسعيد، وأديرتها فى بياض بنى سويف، ودرونكا والمحرق بأسيوط، وجبل الطير بالمنيا، ووادى النطرون بالبحيرة، حيث تجد المصريين حاضرين على الرغم من تنوع الانتماء الدينى فيما بينهم، بصورة تعكس روح المحبة والتسامح والعيش المشترك.
فى المقابل، فإننا نثق أن لمصر مكانة خاصة فى قلب السيدة مريم العذراء، فقد باركت مصر قديمًا، حين جاءت العائلة المقدسة إلى أرض مصر فى القرن الأول الميلادى (الطفل يسوع وأمه مريم والشيخ يوسف النجار والسيدة سالومى قريبة العذراء)، هربًا من هيرودس الملك الرومانى الذى كان يريد نفس الطفل يسوع خوفًا من أن يهدد عرشه ويملك مكانه، حسب رواية الكتاب المقدس، فكانت بلاد مصر ملاذًا آمنًا للعائلة المقدسة التى أقامت فيها ما يقرب من أربع سنوات، انتقلت خلالها من شمال البلاد إلى جنوبها، قبل أن تعود ثانية إلى بلادها، تشرب من نيل مصر وتأكل من خيرات البلاد، وتبارك العباد.
حيث زارت الفرما بشمال سيناء، وتل بسطا ثم بلبيس بالشرقية، وسمنود بالغربية، وسخا بكفر الشيخ، ووادى النطرون بالبحيرة، والمطرية ثم مصر القديمة والمعادى بالقاهرة، ومنف (ميت رهينة) بالجيزة، ودير الجرنوس بالهنسا، وجبل الطير بسمالوط، والأشمونين بالمنيا، وديروط الشريف ومير القوصية ودير المحرق بأسيوط، وجبل درونكا ودير الجنادلة، حسب بعض المخطوطات، ومن هناك عادت العائلة المقدسة إلى فلسطين، بعد أن عاش السيد المسيح طفولته فى مصر، ومن الأماكن التى زاروها فى رحلة العودة مسطرد بشبرا الخيمة. وقد تحولت تلك المناطق إلى بقع مقدسة وأماكن مباركة، بها كنائس وأديرة، تخدم المجتمع المحيط ويأتى إليها الزوار، من داخل مصر وخارجها، طلبًا للبركة والمعونة، أو اشتياقًا للبحث وحُبًا فى المعرفة.
وعلى الرغم من مرور أكثر من ألفى عام على حدث مجىء العائلة المقدسة إلى مصر، إلا أنه يمثل حدثًا مُهمًا فى تاريخ المسيحية الشرقية، وعلامة مضيئة فى ذاكرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث يُمثل مسار العائلة المقدسة واحدًا من أهم وأبرز المعالم الأثرية والسياحة الدينية فى بلادنا مصر، التى تتميز بهذا الحدث عن غيرها من دول العالم، ولم يكن غريبًا أن تحظى رحلة العائلة المقدسة باهتمام الحكومة حي أبدت اهتمامًا بمشروع إحياء مسار العائلة المقدسة، خاصة أن تلك الرحلة تحظى أيضًا باهتمام منظمة «اليونسكو». كما أن بابا الفاتيكان، قداسة البابا فرنسيس الثانى كان قد قرر فى أكتوبر ٢٠١٧م اعتبار مسار العائلة المقدسة «رحلة حج مسيحى» للمسيحيين الكاثوليك حول العالم، وفى شهر مايو ٢٠١٨م أُدرجت زيارة المسار بشكل فعلى ضمن زيارات الفاتيكان الرسمية، ليجتذب مسار العائلة المقدسة فى مصر اهتمامًا عالميًا.
من مدائح العذراء: «السلام لك يا مريم يا معونة لمن يريد».
وكل عام وحضراتكم فى خير وفرح وسلام.