في عالم مليء بالتحديات والمخاطر، هناك من يعملون في الظل دون أن يعرفهم أحد، رجال ونساء يتفانون في حماية أوطانهم من التهديدات الخارجية، واللواء محيي الوسيمي كان واحدًا من هؤلاء الأبطال. كانت حياته مليئة بالأحداث الشيقة والمثيرة التي توضح مدى شجاعته وفطنته في مواجهة الأخطار التي تحيط بوطنه. لقد كان الوسيمي ضابطًا استثنائيًا في جهاز المخابرات العامة المصرية، اشتهر بلقب “صائد الجواسيس”، وهو اللقب الذي استحقه بجدارة بعد نجاحه في الكشف عن العديد من شبكات التجسس خلال فترة حرب الاستنزاف والاستعداد لحرب أكتوبر المجيدة.
البدايات: كيف أصبح “صائد الجواسيس”
اللواء محيي الوسيمي لم يكن ضابط مخابرات عاديًا. منذ صغره، كان شغوفًا بالقراءة والتعلم، وكان يمتلك فضولًا لا ينتهي لمعرفة أسرار الأمور وكيفية عملها. هذا الفضول جعله يتفوق في دراسته ويحقق نتائج متميزة، مما أهله للانضمام إلى الكلية الحربية. بعد تخرجه، تم اختياره للعمل في جهاز المخابرات العامة نظرًا لتميزه وذكائه الحاد.
في بداية مسيرته المهنية، عمل اللواء الوسيمي في عدة ملفات تتعلق بالأمن القومي، حيث كان يُعرف عنه قدرته الفائقة على التحليل وربط الأحداث بعضها ببعض. تدريجيًا، أصبح أحد أبرز ضباط المخابرات في إدارة مقاومة التجسس، وهي الإدارة التي تتطلب فطنة وسرعة بديهة في اكتشاف محاولات التجسس والاختراق.
عام 1970: البداية الحقيقية لمسيرته كـ”صائد الجواسيس”
كان عام 1970 عامًا مليئًا بالتحديات لمصر. البلاد كانت تخوض حرب استنزاف مع إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967، وكانت القوات المسلحة المصرية تستعد بشكل مكثف لحرب جديدة تستعيد فيها كرامتها وأرضها المحتلة. في هذه الفترة، كانت أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وعلى رأسها المخابرات الإسرائيلية، تبذل جهودًا كبيرة للحصول على معلومات عن الخطط العسكرية المصرية.
كان اللواء محيي الوسيمي يعمل ليل نهار على تأمين الجبهة الداخلية والتأكد من عدم اختراقها من قبل الجواسيس الأجانب. وفي هذا العام، بدأت سلسلة من الأحداث التي ستجعل اسمه يُخلد في ذاكرة الوطن كأحد أعظم رجال المخابرات المصرية.
واقعة كورنيش النيل: صدفة غيرت مسار التاريخ
في أحد أيام صيف عام 1970، وبعد يوم طويل من العمل المضني في مكتبه، قرر اللواء محيي الوسيمي أن يأخذ استراحة قصيرة ويتمشى على كورنيش النيل ليستنشق بعض الهواء النقي. كان يحتاج إلى تلك اللحظات من الهدوء للتفكير بعيدًا عن ضغوط العمل. لم يكن يعلم أن تلك النزهة البسيطة ستقوده إلى واحدة من أخطر شبكات التجسس التي كُشف عنها في تلك الفترة.
بينما كان اللواء الوسيمي يسير على الكورنيش بالقرب من كازينو الشجرة، لاحظ سيارة تقف بجانب الطريق، نزل منها رجل يرتدي الزي العسكري، ولكنه سرعان ما دخل إلى الكازينو ليخرج منه بعد دقائق مرتديًا ملابس مدنية. أثارت هذه الحركة السريعة شكوك اللواء الوسيمي، خاصة وأن الرجل الذي نزل من السيارة كان مساعد الملحق العسكري الروسي في القاهرة.
أخذ الفضول يغلبه، فقرر الوسيمي متابعة الرجل بحذر دون أن يشعره. كانت هذه اللحظة بداية لسلسلة من الأحداث التي ستكشف عن شبكة تجسس روسية تعمل في قلب القاهرة.
تبع اللواء الوسيمي الرجل حتى وصل إلى منطقة الأهرامات، حيث توقف الرجل وركب سيارة أخرى. لم يكن الوسيمي ليترك هذه الفرصة تمر دون استغلالها، فقام بتسجيل رقم السيارة وبدأ في تتبع هويتها. بعد التحقيقات الأولية، اكتشف أن السيارة تعود لطالب جامعي يعمل مترجمًا للخبراء الروس في الجيش المصري.
تم استدعاء الطالب إلى مقر المخابرات العامة، حيث تم استجوابه بدقة. بعد ساعات من التحقيق المكثف، بدأ الطالب يتلعثم في حديثه، وأخيرًا انهار واعترف بأنه جزء من شبكة تجسس روسية كانت تهدف للحصول على معلومات عسكرية حساسة. كانت تلك العملية من أخطر العمليات التي كُشف عنها في تلك الفترة، حيث كانت تهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر.
قضية فاروق الفقي: الجاسوس الأخطر
بعد النجاح في كشف شبكة التجسس الروسية، لم يتوقف اللواء محيي الوسيمي عن متابعة عمله بدقة. كانت الأوضاع في مصر مشحونة بالتوتر، وكانت المخابرات الإسرائيلية تسعى بكل قوتها لاختراق الجيش المصري والحصول على معلومات حساسة.
إحدى القضايا التي برزت في تلك الفترة كانت قضية المقدم فاروق الفقي. كان الفقي ضابطًا مهندسًا في القوات المسلحة المصرية، وقد تولى مسؤولية تجهيز المواقع العسكرية وتجهيز منصات الصواريخ. لم يكن أحد يتصور أن هذا الضابط، الذي كان يتمتع بثقة كبيرة من قادته، يمكن أن يكون متورطًا في شبكة تجسس لصالح إسرائيل.
تعرفت المخابرات العامة المصرية على الفقي من خلال رسالة اعترضتها أثناء مراقبة الخطابات التي كانت تتبادلها الجاسوسة الإسرائيلية هبة سليم مع جهات اتصالها. في إحدى الرسائل، ذكر الفقي أنه “حضر مناورة بالذخيرة الحية”، وهي معلومة سرية لم يكن من المفترض أن يعرفها إلا عدد محدود من الضباط.
أثار هذا الأمر الشكوك، وبدأت المخابرات العامة بالتعاون مع المخابرات الحربية في تضييق دائرة المشتبهين. بعد تحقيقات دقيقة، تم تحديد فاروق الفقي كالمشتبه به الرئيسي. تم استدعاؤه للاستجواب، وبعد ساعات من التحقيق المكثف، انهار الفقي واعترف بتورطه في نقل معلومات حساسة إلى هبة سليم، التي كانت تتولى إرسالها بدورها إلى إسرائيل.
كانت هذه القضية من أخطر قضايا التجسس التي كُشف عنها في تلك الفترة، حيث كان الفقي قريبًا جدًا من مواقع اتخاذ القرار العسكري، وكان من الممكن أن يؤدي استمراره في العمل لصالح إسرائيل إلى كشف خطط حرب أكتوبر، مما كان سيؤدي إلى كارثة وطنية.
دعم المقاومة في سيناء: دور اللواء الوسيمي
لم تقتصر إنجازات اللواء محيي الوسيمي على كشف الجواسيس فقط، بل كان له دور كبير في دعم المقاومة الشعبية في سيناء خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي. كانت سيناء تحت الاحتلال منذ هزيمة يونيو 1967، وكان أهلها يعانون من القمع والتضييق على أيدي القوات الإسرائيلية.
كان اللواء الوسيمي يؤمن بأهمية المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال، وكان يرى أن دعم هذه المقاومة وتوجيهها يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في المعركة ضد العدو. بدأ اللواء الوسيمي في الاتصال بشبكات المقاومة في سيناء، وبدأ في تقديم الدعم لهم بشكل سري. تم إرسال مجموعات من المخابرات الحربية والمخابرات العامة لمساعدة أهل سيناء في تنظيم عملياتهم الفدائية ضد القوات الإسرائيلية.
كان من بين هذه المجموعات فريق من الصاعقة بقيادة إبراهيم الرفاعي، وهو أحد أبطال القوات المسلحة المصرية. كانت هذه المجموعة تقوم بعمليات جريئة داخل سيناء، بما في ذلك تفجير مواقع للعدو وتنفيذ كمائن ضد دورياته. كانت عملياتهم تُحدث صدى كبيرًا في إسرائيل، حيث كانت تُظهر أن المصريين لم يستسلموا للاحتلال وأنهم مستعدون للمقاومة بأي ثمن.
إضافة إلى ذلك، كان اللواء الوسيمي جزءًا من منظمة سيناء العربية التي تم تأسيسها لدعم المقاومة في سيناء. كانت هذه المنظمة تضم ضباطًا من المخابرات العامة والحربية، وكان الهدف منها جمع المعلومات العسكرية وتنفيذ عمليات فدائية ضد القوات الإسرائيلية. بفضل هذا العمل المنظم والدقيق، تمكن المقاومون من إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الإسرائيلية، مما أسهم في إضعاف معنويات العدو وتشتيت انتباهه عن الجبهة المصرية الرئيسية.
عمليات فدائية ناجحة: بطولات اللواء الوسيمي وفريقه
أشرف اللواء محيي الوسيمي على العديد من العمليات الفدائية التي تم تنفيذها داخل سيناء المحتلة. كانت هذه العمليات تهدف إلى إرباك العدو وإحداث أكبر قدر من الخسائر في صفوفه، مما يجعل مهمته في السيطرة على سيناء أكثر صعوبة.
إحدى العمليات الفدائية الناجحة التي قادها اللواء الوسيمي كانت عملية تفجير أحد الجسور الهامة التي كانت تستخدمها القوات الإسرائيلية لنقل الإمدادات العسكرية داخل سيناء. كانت هذه العملية تتطلب دقة كبيرة في التنفيذ، حيث كان على الفريق الفدائي التسلل إلى المنطقة تحت جنح الظلام وزرع المتفجرات دون أن يتم اكتشافهم.
نجح الفريق في تنفيذ المهمة بدقة، وتم تفجير الجسر في الوقت المحدد، مما أدى إلى قطع خطوط الإمداد الإسرائيلية وإرباك خططهم العسكرية. كانت هذه العملية بمثابة رسالة قوية للعدو بأن المقاومة المصرية لن تتوقف، وأن سيناء لن تكون أبدًا تحت سيطرتهم الكاملة.
العلاقة مع أهالي سيناء: تعاون وثيق وثقة متبادلة
كانت العلاقة بين اللواء محيي الوسيمي وأهالي سيناء مميزة وتعتمد على التعاون الوثيق والثقة المتبادلة. أدرك الوسيمي أن الأهالي هم خط الدفاع الأول ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأنهم يمتلكون معرفة عميقة بجغرافية المنطقة وتفاصيل الحياة اليومية فيها، مما يجعلهم شركاء استراتيجيين في أي عملية مقاومة.
منذ البداية، سعى اللواء الوسيمي إلى بناء جسور من الثقة مع سكان سيناء. كان يجتمع مع شيوخ القبائل والزعماء المحليين، ويستمع إلى مخاوفهم واحتياجاتهم، ويقدم لهم الدعم اللازم سواء من خلال توفير الأسلحة والعتاد للمقاومين، أو من خلال تأمين الغذاء والدواء للعائلات المتضررة. كانت هذه اللقاءات تهدف إلى خلق بيئة من التعاون المبني على الاحترام المتبادل والتفاهم.
كان أحد أكبر إنجازات اللواء الوسيمي في هذا السياق هو نجاحه في تنظيم شبكة معلوماتية واسعة من أهالي سيناء، حيث كان يتم جمع المعلومات عن تحركات القوات الإسرائيلية ونقلها بشكل دقيق إلى القيادة المصرية. كانت هذه المعلومات ثمينة للغاية وسمحت للقوات المصرية بتنفيذ عمليات دقيقة وفعالة ضد العدو.
بالإضافة إلى ذلك، كان اللواء الوسيمي حريصًا على تقديم الحماية والدعم لأهالي سيناء الذين كانوا معرضين لعمليات انتقامية من قبل الاحتلال بسبب تعاونهم مع المقاومة. كان يؤمن بأن الحفاظ على معنويات هؤلاء السكان وتعزيز صمودهم هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية المقاومة.
قصة بطولة: عملية إنقاذ الفريق الفدائي
من بين العمليات التي تُظهر مدى شجاعة اللواء محيي الوسيمي وقدرته على التعامل مع المواقف الصعبة، كانت هناك عملية إنقاذ فريق فدائي وقع في فخ نصبه العدو. كان هذا الفريق مكلفًا بتنفيذ عملية تفجير أحد المستودعات الإسرائيلية في قلب سيناء، ولكن أثناء التنفيذ، اكتشفهم العدو وبدأت قواته في مطاردتهم.
كانت الخيارات محدودة أمام الفريق الفدائي، حيث كانت المنطقة محاصرة من قبل القوات الإسرائيلية. ولكن بفضل الاتصالات التي نظمها اللواء الوسيمي مع الأهالي، وصلت إليه معلومات عن الموقف الحرج الذي يواجهه الفريق. بدون تردد، قاد الوسيمي بنفسه فريقًا من المخابرات لتنفيذ عملية إنقاذ جريئة.
استطاع الفريق الوصول إلى المكان المحدد بسرعة، وتمكنوا من إرباك القوات الإسرائيلية من خلال هجوم مفاجئ أدى إلى تشتيت انتباه العدو وإتاحة الفرصة للفريق الفدائي للانسحاب بأمان. هذه العملية كانت بمثابة تأكيد على قدرة اللواء الوسيمي على اتخاذ قرارات حاسمة في أوقات حرجة، وأظهرت أيضًا عمق علاقته مع الفدائيين وثقته في قدراتهم.
النضال الدائم: مراحل أخرى من المقاومة
استمرت مسيرة اللواء محيي الوسيمي في مكافحة التجسس ودعم المقاومة حتى الوصول إلى لحظة النصر في حرب أكتوبر 1973. كان دور اللواء الوسيمي خلال تلك الحرب حاسمًا، حيث كان يتولى مهمة جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للقيادة العسكرية لاتخاذ القرارات المناسبة.
خلال هذه الفترة، كشف اللواء الوسيمي عن محاولات جديدة من قبل العدو لاختراق الصفوف المصرية، ولكن بفضل شبكته الواسعة من العملاء والمخبرين، تمكن من إحباط هذه المحاولات في مهدها. كانت هذه الفترة مليئة بالتحديات، حيث كان العدو يحاول بكل السبل الحصول على معلومات حول خطط الحرب المصرية، ولكن اللواء الوسيمي وفريقه كانوا دائمًا على أهبة الاستعداد للتصدي لأي محاولة اختراق.
كان من بين العمليات التي أشرف عليها الوسيمي خلال حرب أكتوبر، عملية تدمير مركز قيادة إسرائيلي في سيناء، حيث تم تنفيذ هذه العملية بالتعاون مع مجموعة من الفدائيين المحليين، وتمكنت من إلحاق خسائر فادحة بالعدو.
إرث اللواء محيي الوسيمي
بعد انتهاء حرب أكتوبر، كان اللواء محيي الوسيمي قد أصبح أسطورة حية في جهاز المخابرات المصرية. ورغم الأوسمة والتكريمات التي حصل عليها، كان الوسيمي دائمًا يعتبر نفسه مجرد جندي في خدمة الوطن. لم يتوقف عن العمل بعد الحرب، بل استمر في تدريب الأجيال الجديدة من ضباط المخابرات، ونقل إليهم خبراته الواسعة وأسرار نجاحاته.
كان الوسيمي يرى أن الدفاع عن الوطن ليس مهمة تنتهي بانتهاء الحرب، بل هي واجب مستمر يتطلب اليقظة الدائمة والعمل الدؤوب. وقد غرس هذا الفهم في جميع من عملوا تحت قيادته، مما جعل إرثه يستمر حتى بعد تقاعده.
قصة اللواء محيي الوسيمي قصة بطل حقيقي، رجل عاش حياته كلها في خدمة بلاده، وكافح بكل ما أوتي من قوة وذكاء لحماية أمنها واستقرارها. سيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة الوطن كرمز للشجاعة والولاء، وكدليل على أن الإرادة الصلبة يمكنها دائمًا التغلب على التحديات.
إنجازات اللواء محيي الوسيمي مصدر إلهام للأجيال القادمة، وهي تعكس ما يمكن أن يحققه الإنسان عندما يكون مدفوعًا بحب الوطن والإيمان بقضيته. هذه القصة ليست مجرد سرد لأحداث تاريخية، بل هي شهادة على قوة العزيمة والإصرار على النجاح في مواجهة أصعب الظروف.