في ظرف قصير لم يتجاوز العشرين شهراً، انطفأ نور أسرة كاملة، تاركةً وراءها حزناً عميقاً وجروحاً لا تندمل في قلوب أهالي قرية أولاد إلياس. كانت البداية مؤلمة بوفاة الأم نجوى شنودة، التي رحلت بهدوء دون أن يشعر أحد بمرضها، وكأنها أرادت أن تتحمل الألم وحدها، لتجنب أحبائها رؤية ضعفها ومعاناتها. وبعد رحيلها، تبعها الزوج عبده خله، الذي كان يُعرف بابتسامته الودودة وقلبه الطيب، ليترك فراغاً كبيراً في قلوب من عرفوه وأحبوه.
عبده خله لم يكن مجرد رجل عادي، بل كان روحاً نابضة بالحياة، يشعّ بالخير والكرم، ويمد يد العون لكل من حوله دون تردد. كان تاجراً أميناً، معروفاً بين أهل منطقته وقريته، يتعامل معهم بصدق وإخلاص. لم يكن يترك أحداً في ضيقته، بل كان دائماً يقدم ما يستطيع من مساعدة، سواء كان ذلك بالطعام الجاف أو بما يحتاجه الناس من البقالة. كان بيته مفتوحاً للجميع، وزوجته السيدة نجوى شنودة كانت بشوشة ومضيافة، تستقبل الجميع بوجه طلق وابتسامة صافية، مما جعل بيتهم ملاذاً آمناً لمن يحتاج.
المأساة لم تتوقف عند هذا الحد، فبعد رحيل الأبوين، لم يمضِ وقت طويل حتى أُصيب الابن مينا عبده خله بمرض السرطان، الذي لم يستطع التغلب عليه، ليرحل بعد صراع مرير مع المرض، تاركاً خلفه طفلاً صغيراً لم يتجاوز العامين. مشهد رحيل مينا كان فاجعة أخرى ألقت بظلالها الثقيلة على العائلة، فقد كان الأمل في شفائه يشعّ في عيون الجميع، ولكن القدر كان له رأي آخر. وكأن القدر كان قد كتب لهذه الأسرة أن تعيش أحزانها على مراحل، فلم تمر سوى شهور قليلة حتى جاء خبر وفاة الابن الأصغر، بيشوى، ليزيد من ثقل الفقدان ويضع نهاية مأساوية لهذه القصة المؤلمة.
كانت الأسرة تعيش بهدوء، وتواجه محنتها بصمت، دون أن يشعر أحد من سكان القرية أو الجيران بما يمرون به. لم يكن هناك شكوى، ولا تذمر، فقط الصبر والإيمان العميق بما كتبه الله لهم. كانوا دائماً يظهرون رضاهم وقناعتهم بما كتب لهم، وكأنهم كانوا يعلمون أن نهاية الطريق قد اقتربت. الابتسامة لم تفارق وجوههم، رغم شدة المرض الذي ألمّ بهم في أيامهم الأخيرة، وكانوا مثالاً يُحتذى به في مواجهة المحن بكرامة وصمود.
هذه الأسرة لم تكن مجرد أفراد عاشوا حياتهم ومضوا، بل كانوا نموذجاً يُحتذى به في القيم والأخلاق. أسرة عبده خله امتلكت هيبة بين الناس، جعلت الصغير والكبير ينحني احتراماً لها. لم تكن مجرد أسرة عادية، بل كانت حاضرة في كل مناسبة، سواء كانت سعيدة أو حزينة، قريبة من الجميع، تعمل دائماً على الصلح بين المتخاصمين وتسعى لنشر الخير بين الناس. لم يعرف الحزن طريقه إلى قلوبهم، بل كانوا دائماً يعكسون الأمل والتفاؤل، حتى في أصعب الظروف.
ما ميز هذه الأسرة أيضاً كان بيتهم المفتوح للجميع، حيث كانوا يستقبلون ضيوفهم بكرم ويوفرون لهم الراحة والاحترام. كانوا يحترمون جيرانهم ويصلون رحمهم، لا ينقطعون عنهم أبداً، بل يبقون دائماً على تواصل معهم، مجسدين أسمى قيم المجتمع. كان تواضعهم وصدقهم هو سر محبتهم من الجميع، فقد عاشوا حياتهم ببساطة دون أن يبحثوا عن المظاهر الخادعة أو الوجاهة الاجتماعية. كانوا نزيهين، بعيدين عن المظاهر المخلة، يتصرفون بصدق ويمثلون القيم والأخلاق في مجتمعهم.
الحديث عن أسرة عبده خله لا ينتهي عند حدود شخصيات أفرادها، بل يمتد إلى تاريخها العريق وأثرها العميق في مجتمعها. هذه الأسرة عُرفت بالقيم والأخلاق، وتركت بصمة لا تُمحى في قلوب كل من عرفها. ورحيلها لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان خسارة فادحة لكل من عرفهم، لكل من استظل بظلهم في وقت الشدة، ولكل من تلقى منهم العون والمساعدة.
بكل هذه الصفات والقيم، تظل أسرة عبده خله رمزاً للرجولة والأخلاق في مجتمعنا، وذكراهم ستظل حية في قلوب كل من عرفهم. ليس هناك كلمات تستطيع أن تعبر عن حجم الألم الذي تركوه برحيلهم، ولكن يبقى الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة هو أقل ما يمكن أن نقدمه لهم، وأن نستلهم من حياتهم دروساً في الصبر والتحمل، وفي الإيمان بأن الحياة مهما كانت قصيرة أو مؤلمة، فإن القيم التي نزرعها في قلوب الناس هي ما يبقى ويخلد.