صراع داخلي وتعلق بالمكان
كان “آدم” يتحدث عن الفرص المتاحة أمامه للسفر للخارج بينما كنت أشعر أن الصراع بداخله يصل إلى ذروته، فبين الرغبة في مغادرة المناخ الذي يتعرض فيه المثقفون والموهوبون للحصار، وهذا التعلق بالناس والأماكن والأحلام الذي يحكم كثيرًا من العشاق الذين أحبوا موهبتهم أكثر من أي شيء آخر، تتصاعد الحيرة النبيلة.
رمز للمواهب
أحب صديقي رضوان آدم، ابن الصعيد، الكاتب والصحفي والمثقف والإنسان وصاحب الموهبة المتفردة المتدفقة بلا انقطاع، وأراه رمزًا لكل الموهوبين في الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج، هؤلاء الذين تتألق موهبتهم فتضيء الطريق للجميع حتى لو ظلوا يعانون الحصار فقط لأنهم أصروا أن يكونوا هم لا الآخرين.
حصار الموهبة في وطننا العربي
في المساحات الممتدة بين التقدم والتخلف ينظر العالم إلى الموهبة، كيف تتعامل الدول معها؟ وكيف تستفيد منها المجتمعات؟ وهل تحصل على فرصتها الطبيعية في النمو والتأثير أم تُواجَه بجبال من القيود والحصار والاختناق؟
والمؤكد أن الممنوعات هي التي تحكم أوطاننا من أقصاها إلى أقصاها، تتنوع بين السياسي والديني والمجتمعي، ويدفع ثمنها أصوات وأفكار نابهة متألقة هي الحل الأمثل لأن تتقدم كل المجتمعات المحاصرة بالقيود إلى الأمام.
قمع الحريات
بينما تحاصرنا القيود المفروضة على الرأي والتعبير وتقلص قدرة كل الموهوبين على الفعل والتأثير، تمسك الرقابة بتلابيب كل الأعمال الفنية والإبداعية لتفرغها من مضمونها وتحتفي بأكثرها سذاجة وسطحية.
في كل الدول التي سبقتنا إلى التقدم باتت الحريات العامة هي الأصل والأساس، تقع مقام التقديس، يؤمن الجميع بأنها أحد دوافع التحرك إلى المستقبل، بينما في أوطاننا العربية ما زال الموهوبون والمثقفون ينشدون فرصة للهروب من جحيم الاستبداد والتكفير الفكري والديني رغم الصراع الذي يسكن الكثير منهم قبل حسم قرار السفر إلى الخارج.
حديث الموهوبين
كان صديقي رضوان آدم يروي للجالسين معنا في “الكافيه” قصته مع الإبداع، يحكي لنا عن مجموعته القصصية، أو عن واحد من أفلامه الوثائقية التي تكشف وتضيء المساحات المظلمة في حياة أحد الكُتاب أو المبدعين، بينما يؤكد -كأي مبدع جاد- أنه لا يتعجل نشر ما ينتج من كتابات إبداعية مهمة. يؤمن صديقي بداخله أن المناخ لا يسمح بنشر كل ما نريد، يتنقل بين حكايات الكُتاب الذين بدأوا حياتهم الأدبية والإبداعية بعد الخمسين، أو عن هؤلاء الذين كان نص واحد مما كتبوا كافيًا ليعرفهم العالم ويقدرهم كل المؤمنين بالموهبة.
يحكي لنا قصة رواية “العطر” التي صعدت بكاتبها الألماني باتريك زوسكيند إلى الأمام ونقلته إلى مستوى العالمية، عمل واحد فقط كان فاصلًا في تخليد اسم صاحبه. لا ينسى “آدم” أن يضرب المثل برواية (المسيح يُصلب من جديد) لليوناني كازانتزاكيس الذي أهدى العالم روايته الفذة والمبهرة لتعيش سنوات طويلة بعد أن رحل صاحبها، كل هذه الأمثلة كانت كافية لكي يؤمن الصعيدي الموهوب أن الإبداع سيعيش آلاف السنين، وأن الاستبداد بوجهه المتجهم القبيح لن ينجح في حصار الأفكار إلى الأبد.
نوافذ الحرية
في كل صباح يطل العالم المتقدم -أو الذي ينشد التقدم- من نافذة الحرية ليفتحها بشكل أكبر، يفعل ذلك ليحرر عقول كل هؤلاء الذين يملكون المشروعات والأفكار التي يمكن أن تعيش وتجدد وتهدم ظلام الرجعية والرؤى المعلبة، وتعيد الأوطان إلى سماحتها وبراءتها الأولى، إلا أوطاننا التي لا تزال تحاصر كل الذين يشبهون صديقي رضوان آدم، تغيّب إبداعهم وتجبرهم على الابتعاد عن واجهة المشهد الممتلئ بأنصاف المواهب، وترى أن كل الأفكار الجديدة خطر على تماسك المجتمعات، تلك المجتمعات التي باتت هشة وعجوزة بسبب تغييب كل ما هو جديد ووضع القيود حول كل صوت مختلف ومميز.
ترتيبنا المتراجع بقوائم الحرية في العالم
في كل مؤشرات الحرية في العالم يقع الوطن العربي في مؤخرة الترتيب، من الرأي والتعبير إلى الصحافة والإعلام والعقيدة والحريات الأكاديمية وغيرها من الحريات التي باتت تكشف درجة التطور والنمو التي وصلت إليها الدول، والتي وضعت الغرب الأوروبي والأمريكي في مساحة مختلفة وبعيدة عنا تمامًا كبُعد الأرض عن السماء.
مخاوف الأنظمة
تخشى الأنظمة العربية من هواء الحرية، لا يؤمن حاكم عربي بأن تأخرنا عن العالم بعشرات السنوات له علاقة بغياب الحريات وبعدم قدرة الناس على أن تنتج أفكارًا، وأن تسيد خيالًا جديدًا عن كل ما فات، فالحرية المتاحة في الوطن العربي لا تكفي لكاتب واحد بتعبير الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، لكن هذا لم يلفت نظر حاكم واحد أو جعله ينتبه إلى أن شيئًا ينقصنا هو الذي أجبرنا على الجري في المكان بينما غيرنا يتقدم وينتقل من محطة إلى أخرى على درب العلم والتطور.
ماذا نفعل؟
في هذا العالم الذي ذابت حدوده الجغرافية بفعل التكنولوجيا الحديثة والتواصل الاجتماعي وغيرها من متغيرات مهمة حدثت، لا يمكن أن يعيش جزء من كوكب الأرض -اسمه الوطن العربي- خارجه!
فمن حق الشعوب العربية كغيرها من شعوب الأرض أن تحصل على حريتها، وحقها في التعبير والتفكير، هذا هو بداية الطريق وربما منتهاه أيضًا.
لا يمكن لأوطان تنشد التقدم أن تحاصر صديقي النبيل رضوان آدم وغيره الكثير، ولا يمكن لأفكار كل المبدعين أن تظل حبيسة بين جدران الخوف والتخويف، ثم يظن البعض ممن هم يحكمون أننا نسير إلى أمام، فالحق أن هذه القيود معناها الوحيد أننا نقف أمام حركة التاريخ، وظني أن أحدًا لا يمكنه هزيمة مسار هذا التاريخ الذي يتحرك إلى الأمام حتى لو كانت حركته بطيئة وغير منظورة.
دعوة لفتح أبواب الحرية
افتحوا أبواب الحرية أمام كل المبدعين والموهوبين، ودعوا أزهار الخيال الجديد تزهر وتتفتح لعلها تدفعنا إلى حيث نريد.
أما أنا فسأعود إلى حيث يجلس صديقي “آدم” في الكافيه القاهري بشارع شامبليون الشهير، نحكي عن قصص الموهوبين والمبدعين الذين أراهم أمامي تمامًا وأنا أستمع لحكايات واحد منهم وأحلامه المؤجلة، وقراره المتردد في السفر إلى الخارج.