يقول المثل الشعبى «من فات قديمه تاه»، ومن الأقوال المأثورة للشيخ الجليل محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥م) «إن قراءة التاريخ واجب من الواجبات الدينية المقدسة». وحسب الدكتور حسن عثمان فى كتابه (منهج البحث التاريخى) فإنه «لا غنى للإنسان عن دراسة ماضيه باعتباره كائنًا اجتماعيًا. فينبغى عليه أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ أعماله وآثاره»، وعند الدكتورة حكمت أبو زيد- أول وزيرة فى العالم العربى (وزارة الدولة للشؤون الاجتماعية)- فى كتابها (التاريخ تعليمه وتعلمه) أنه «طالما كان هنا حاضر، فلا بد من أن يكون هناك ماضٍ ومستقبل. والتاريخ؟ شجرة تحكى قصة هذه العناصر الزمنية، ماضيها جذورها الثابتة فى الأرض، وحاضرها جذعها المنتصب، وفروعها الممتدة إلى السماء تحمل ثمار المستقبل».
وإذا كان البعض يتساءل بين الحين والآخر عن أهمية كتابة التاريخ والجدوى من دراسته وقراءته!! فحقيقة الأمر أن هناك فوائد كثيرة من وراء الاهتمام بالتاريخ على مستوى البحث والدراسة والتوثيق والكتابة والمعرفة والقراءة.
أولًا- التاريخ مُعلّم للإنسان: منه يستقى الحكم والمواعظ والعِبر، حيث يحفل التاريخ بالكثير من الحوادث المهمة، التى ينبغى التوقف عندها بمزيد من التأمل العميق والتحليل الدقيق والقراءة المتأنية، كما يزخر التاريخ بالرؤى والأفكار التى أنتجها مثقفون ومفكرون عاشوا حياتهم فى خدمة رسالة التحديث والتنوير، وكانت لهم رؤى وأفكار تستحق أن نستعيدها ونقرأها باهتمام. ومن هنا فإن التاريخ، مواقفه وأحداثه.. رؤاه وأفكاره، ليس رصدًا لأحداث الماضى فحسب، ولكنه أيضًا يمس الحاضر الذى نحياه، ويُمثل نافذة على المستقبل الذى سوف نعيشه، أو سوف يعيشه بعضنا.
ثانيًا- التاريخ يحقق التواصل بين الأجيال: فحين يقرأ الفرد حوادث التاريخ فإنه يتعرف على ذاكرة الوطن الذى يعيش حاضره، ويتميز تاريخ مصر بأنه تاريخ خصب وغنى، ما يُساهم فى تشكيل الذاكرة الجمعية للمواطنين. فالشباب المصرى الذى يعيش هذا الحاضر لم يعش ثورة أجداده المصريين سنة ١٩١٩م، ولكنهم حين يقرأون عن تلك الثورة وأحداثها فإنهم يتعرفون على فترة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية المصرية ونضالها ضد الاستعمار وقوات الاحتلال، ويعرفون معانى إيجابية كثيرة مثل قيمة الوحدة الوطنية بمعناها الشامل، حيث اتحد أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن الدين أو النوع أو المستوى الاقتصادى- الاجتماعى أو الانتماء الفكرى والأيديولوجى أو أى اختلاف آخر، وشاركت المرأة المصرية فى سبيل تحقيق الاستقلال، وكذلك الطلاب والعمال والموظفون والفلاحون وغيرهم من مكونات الجماعة الوطنية المصرية آنذاك. وكثيرون أيضًا لم يعيشوا انتصارات السادس من أكتوبر ١٩٧٣م، إلا أن هؤلاء الشباب وحين يدرسون أو يقرأون عن هذا الحدث فى كتب التاريخ فإنهم يدركون هذا الانتصار العظيم، ليتعرفوا على الكثير من قصص الآباء وبطولات الأجداد فى سبيل استرداد الأرض المغتصبة وتحقيق السلام العادل.
ثالثًا- التاريخ يدعم الانتماء الوطنى: حيث تُساهم قراءة التاريخ ودراسته فى بناء الوعى ودعم الهوية وتأكيد قيمة حب الوطن والانتماء إليه، من خلال قراءة المواقف والأحداث وسير الشخصيات التى اهتمت بالعمل العام وتحقيق الاستقلال والنهضة ونمو الوطن فى السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة.
رابعًا- التاريخ وعلاج مشكلات الحاضر: إذ ليس خافيًا أن التاريخ يحمل، وعلى وجه الخصوص فى بعض الأوقات التى تشهد أزمات ومشكلات واضطرابات مجتمعية، ردًا مناسبًا وعلاجًا ملائمًا، وتكون استعادة التاريخ إحدى طرق العلاج والحل، حيث يتم استعادة التاريخ واستلهام مواقفه واستدعاء رموزه من التنويريين والمُصلحين، أو ضخ الدماء فى شخصياته بتعبير أستاذتنا الدكتورة لطيفة سالم، وإبراز مواقفهم وأفكارهم ليتعلم منها المعاصرون.
خامسًا- التاريخ يدعم التفكير النقدى، والتدريب على التحليل والتفسير والربط بين الأحداث.
سادسًا: للتاريخ دور مهم فى توثيق مختلف الوقائع والأحداث، وتخليد سير الشخصيات، فى مختلف المجالات، وحفظ التراث للأجيال القادمة، حيث يمثل التاريخ ذاكرة الأمة.
من هنا يأتى الاعتقاد بأهمية إنعاش الذاكرة الجمعية الوطنية بقراءة التاريخ ودراسته من أجل الحاضر والمستقبل، فمن رحم التاريخ خرجت الدراسات المستقبلية التى تستعد للغد بالعلم والعمل، حيث يبدو التاريخ وكأنه «بوصلة» ترشد وتوجّه المسؤولين والمواطنين، ما يتطلب تحديث مناهج التاريخ فى المدارس والجامعات، وتطوير طرق وأساليب التدريس، وتشجيع الزيارات الميدانية، وإنتاج الأعمال التسجيلية والوثائقية والدرامية، ودعم الأبحاث والمؤلفات الفردية والجماعية، ونشر الثقافة التاريخية عبر مختلف وسائل الإعلام، والندوات والمؤتمرات.