من السهل جدًا في هذه الظروف أن نستغل انزعاج الناس من زيادة أسعار البنزين لتأجيج مشاعرهم وتغيب عقولهم، والمتاجرة بغضبهم. من السهل القول: “شفت الحكومة المجرمة اللي مش حاسة بالناس وعمالة تزود في الأسعار!” هذه التصريحات قد تجذب الكثير من الإعجابات وتزيد من كمية الشر والاحتقان، لكن هل تساءل أحد بموضوعية لماذا حدث هذا؟ وهل هذا القرار صحيح أم خطأ على مستوى الاقتصاد ومستقبل الدولة وحياتنا اليومية؟
دعم السلع: جذوره وتطوره
فكرة دعم الحكومة للسلع سواء كانت غذائية أو طاقية لبيعها للمستهلك بأقل من تكلفتها ظهرت لأول مرة في عام 1920 بعد الحرب العالمية الأولى التي أشعلت أسعار المنتجات عالميًا. قامت مصر بهذا الإجراء مثل العديد من دول العالم، ولكن الفرق هو أن الدعم في هذه الدول كان مؤقتًا ومرحليًا، في حين تحوّل في مصر إلى استحقاق، وأصبح الجمهور يقيم كفاءة الحكومة بناءً على أسعار السلع واستمرار الدعم.
ثورة يوليو وتعميق الدعم
بعد ثورة يوليو، وتحت مسمى العدالة الاجتماعية، توسع الدعم السلعي بشكل كبير، مما رسخ أكثر في وجدان المجتمع فكرة استحقاق شراء السلع بأقل من ثمنها. دخلت مصر بعدها سلسلة من الحروب، بينما تخلص العالم من الدعم السلعي نهائيًا، ولم يجرؤ أحد على تصحيح المسار إلا عندما حاول الرئيس السادات، وانتهى الأمر بانتفاضة الحرامية في نهاية السبعينيات! هذه الواقعة جعلت مبارك يتجنب هذا الإجراء خوفًا من رد الفعل، مفضلًا استمرار الدعم على تحسين الخدمات وتطوير البنية التحتية، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه في 2011.
الدعم السلعي: تخريب الاقتصاد أم تحقيق العدالة الاجتماعية؟
الدعم السلعي هو الطريق السريع لتخريب أي اقتصاد واستنزاف نتائج التنمية. ورغم استخدامه لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أنه في الواقع، وبالتجربة، كان ضد العدالة الاجتماعية. أثبتت الدراسات أن دعم السلعة يستفيد منه الأكثر قدرة على الإنفاق أكثر من الأكثر احتياجًا، بينما الدعم النقدي هو السبيل الأفضل لوصول الدعم لمستحقيه وتحقيق العدالة الاجتماعية.
مثال عملي
الدولة تدعم الطاقة والوقود سنويًا بمبالغ ضخمة، حيث أن لتر البنزين الذي تشتريه ب 12 جنيهًا يكلف الدولة حوالي 20 جنيهًا. تذهب الحصة الأكبر من هذه الأموال لأصحاب السيارات الكبيرة الأكثر استهلاكًا، بينما يستفيد منها أكثر الأسر الأكثر قدرة التي تمتلك أكثر من سيارة، وليس أصحاب السيارات الصغيرة أو من لا يملك سيارة أصلاً. بينما لو تم توجيه هذه الميزانية نقدًا للأكثر احتياجًا، لأمكن تحسين أوضاعهم بشكل مباشر.
الحاجة إلى تغيير النظام الحالي
القضية أكبر من فكرة سعر الوقود للمستهلك مقارنة بالدول الأخرى أو مقارنتها بالمرتبات. القضية تتعلق بإصلاح نظام يعاني من عيوب ونزيف سيدمره لا محالة. لذلك، يجب إلغاء دعم الوقود نهائيًا وتحريره، وتحويل مبلغ الدعم للأكثر احتياجًا كدعم نقدي لضمان وصول الدعم لمستحقيه، وحماية اقتصاد الدولة من هذا النزيف المستمر.
دور الدولة في تحسين الخدمات
الدولة أعلنت بوضوح أنها تستهدف الوصول للسعر العادل بشكل تدريجي بنهاية عام 2025. في نفس الوقت، رفعت ميزانية الحماية الاجتماعية في السنوات الأخيرة، مما يشمل برامج الدعم النقدي مثل “تكافل وكرامة”، ومبادرات لتحسين الخدمات في القرى الأكثر فقرًا، ومبادرات العلاج المختلفة مجانًا. هذه البرامج تهدف لتحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الواسع والحقيقي، وتدعم تقدم الاقتصاد وتحسين قدرة الدولة على تقديم الخدمات ووقف النزيف المالي المتزايد.
أهمية التوعية السياسية والاقتصادية
السياسي المزيف هو من يتاجر بالكلام الشعبوي وآلام الناس ليحشد الدعم والتأييد، بينما السياسي الحقيقي هو من يوضح للناس الحقيقة التي تصب في مصلحة الجميع على المدى البعيد، حتى لو كان ذلك مؤلمًا لحظيًا. وللأسف، حتى بعض الخبراء والمتخصصين الذين يعرفون الحقيقة يغازلون الناس بتصريحات تزيد من الدعم النقدي، متجاهلين أن برامج الدعم النقدي تضاعفت عشر مرات خلال السنوات الأخيرة.
في الختام، ما يحدث هو دليل واضح أن مشروع الإصلاح الذي يقوده الرئيس السيسي هو مشروع للمستقبل، وليس مشروعًا للشعبية الزائفة. نحن بحاجة إلى فهم عميق ودقيق لقرارات الدولة، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية من خلال توجيه الدعم لمستحقيه فعلاً، وليس استنزاف موارد الدولة بشكل غير مجدي.