جدل الذات والآخر
ينتمي أول كتاب من مجموعة الكتب التي خططنا لقراءتها هذا الصيف إلى أدب الرحلات، حيث يعبر بنا الأديب الرحالة الحدود إلى نطاقات جغرافية متعددة تحمل “ثراءات” فكرية وثقافية وسلوكية وفنية وجمالية وتاريخية ومعمارية وطبيعية واجتماعية وسياسية وحضارية وحياتية متنوعة. الأديب الرحالة يعمل على التنقيب في أعماق تلك الثراءات الكامنة في حياة الأمكنة والبشر التي يرتحل إليها، واستخراج كل ما من شأنه أن يحدث جدلًا بين الذات والآخر. هذا الجدل يتجاوز الكتابة الوصفية والرصدية إلى إبداع متعدد الأبعاد والمستويات على الطريقة “الطهطاوية” التي قام “باستخلاص الإبريز لتلخيص باريز”. في هذا الإطار، نقدم كتاب: “كل المدن أحلام” للشاعر والناقد المسرحي الأستاذ جرجس شكري (2021). في هذا الكتاب نجد تجسيدًا حيًا للجدل المبدع الذي يقوم به الشاعر بين ذاته والعوالم الجديدة التي ارتحل إليها.
عن ذلك يقول جرجس شكري: “هذه الصفحات ليست سوى محاولة لتفسير وتعليل الدهشة بما شاهدت في أوروبا، ومحاولة لاكتشاف الذات حين ذهبت إلى عالم مختلف تمامًا. فقد كنت أراقب الحياة بكل تفاصيلها، وأراقبني أنا أيضًا في محاولة لتفسير دهشتي مما رأيت. فحين نبتعد نرى أنفسنا بشكل مختلف، تتجلى الحقيقة، ونرى المشهد أكثر عمقًا. ثمة مشاعر وأفكار تطفو على السطح حين يجد الإنسان نفسه في مكان آخر”. نحن، إذن، أمام عملية مركبة تتضمن الدهشة، والمراجعة، وإعادة الاكتشاف للنفس والواقع، ومن ثم إعادة النظر في مقاصد الحياة، وبالأخير تصويب المسار.
السفر إلى النفس عبر الأزمان
هكذا كان جرجس شكري مدركًا لمقاصد الأسفار، إذا ما استعرنا عنوان كتاب الأديب الكبير الصديق الغائب الحاضر دائمًا الأستاذ جمال الغيطاني، عندما وضع أمام عينيه خوض تلك العملية المركبة بأن كتابه “ليس كتابًا عن الرحلات، أو عن أوروبا بقدر ما هو رحلة طويلة سافرت فيها (لاحظ عزيزي القارئ) إلى نفسي في الماضي والحاضر والمستقبل عبر هذه المدن. فما إن كانت قدماي تطآن أرض المطار، وأصعد إلى الطائرة أغوص في أعماقي، لا أعرف هل هو خوف أم فرح، أم هرب، ألتصق بي تمامًا، أسافر إلى طفولتي وشبابي، تتجسد أمامي تفاصيل ومشاهد لم تخطر لي ببال من قبل. أتذكر طفولتي، وسنوات الدراسة، والبيت، وأصدقائي، أتذكر الموتى… أتذكر الأحياء…”.
الغوص في أعماق الذات بأبعادها الشخصية والعامة التي تشكلت في الوطن الأم كان يقابله في نفس الوقت انغماس في تأمل شتى تفاصيل واقع المدن التي يزورها الشاعر، تلك المدن التي تنتمي إلى سياق حضاري مغاير. ومن خلال التساؤل حول ما الذي تفتقده مدننا ــ الذات ــ ويتوفر في مدن أوروبا ــ الآخر ــ من جهة، واستحضار مقاطع ومشاهد من التراث الأدبي والفني المصري والعالمي والعادات والتقاليد والممارسات الحياتية المصرية في محاولة لرسم صورة وافية تتصدرها مدن أوروبا، وفي الخلفية مدن الوطن من جهة أخرى. كان شكري يتفاعل مع ما يعايشه من أحداث، ويرصده من عادات وتقاليد، ويقابله من شخصيات بما تحمل من أفكار وسلوكيات وترتديه من أزياء، ويكتشفه من إبداعات. إذ كان يلتقط التفاصيل الصغيرة ويجتهد في صياغتها صياغة تشريحية وكأنه يضع كل مدينة على طاولة التشريح في نصوص أدبية في الأغلب من الذاكرة تجعل من عملية الكتابة وكأنه يسافر مرة أخرى إلى تلك المدن. حيث كان يتذكر الشوارع والبيوت والشخصيات، وكأنها أحلام، أحلام يستعيدها ليوميات رحلاته إلى مدن أوروبا في كل من: سويسرا، وألمانيا، والنمسا، وفرنسا، وهولندا، وإسبانيا، والسويد، وسلوفينيا.
الاتصال والانفصال للشخصية الحضارية
ينطلق نص “كل المدن أحلام” من ملاحظة جوهرية شديدة الأهمية تتمحور حول حقيقة مفادها أن أوروبا رغم التقدم “احتفظت بكل شيء”. بلغة أخرى، إن من يفقد كل شيء يخاصمه التقدم. “تلك هي القضية” كما يخلص جرجس شكري. يقصد بذلك تحديدًا “عدم اتصال الشخصية المصرية”. ويحيل إلى أنور عبدالملك ما نصه: “إن ماضينا الغابر غير موجود بشكل واضح في شخصيتنا المصرية اليوم، وكأنه لم يكن، وأن هناك انكسارًا بين هذا الماضي الحضاري العظيم وبين حاضرنا الجديد”. فعلى عكس أوروبا فإن مدنها التي وصلت إلى أقصى درجات التقدم ومظاهر المدنية، ثمة اتصال واضح وعميق بالحضارة الأوروبية.
الدهشة التي تجتاح الكاتب حول عالم المدن الأوروبية المختلف كليًا، إلا أنه – وبالرغم من الاحتفاء الشعري – كان “يرى مصر ويحن إليها بعد ساعات حيث روحه فيها”. “كل المدن أحلام” نص عن الذات المصرية بالرغم من الارتحال. أدعوكم لقراءته.