فى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، وفى معرض الحديث عن أحوال الصحافة المصرية ومحاولة تفسير بعض مشكلاتها والبحث عن حلول لهمومها وتحدياتها، قال لنا الدكتور فاروق أبوزيد، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة وعميدها آنذاك، رحمة الله عليه، إن من بين أسباب ضعف أوضاع الصحافة والصحفيين هو تراجع حالة التلمذة، حيث لم يعد يهتم كثيرون من كبار الصحفيين وشيوخ المهنة بتبنى مجموعة من الشباب، يتولون تدريبهم وتهيئتهم لسوق العمل، من خلال إكسابهم مجموعة القيم والأخلاقيات وضوابط المهنة ومهاراتها بشكل عملى، بحيث يحملون رسالة التثقيف والتنوير والمشاركة فى عملية البناء والتنمية، ويواصلون عمل المهنيين الكبار.
وما دلل على كلام أستاذنا الدكتور فاروق هو أنه فى إحدى الندوات التى نظمتها الكلية، ذكر أحد الزملاء، وهو بالمناسبة يعمل صحفيًا مرموقًا اليوم فى إحدى الصحف القومية، وكان قد حصل وقتذاك على فرصة تدريب فى إحدى الصحف، إنه كان يذهب من البيت لكافتيريا الجريدة ومن الكافتيريا يعود للبيت دون تدريب أو متابعة من أحد ودون أن يهتم به أى من صحفيى الجريدة، وبالطبع ما حكاه الزميل ليس ظاهرة عامة وليس حالة شائعة، لكنها حالة موجودة وكاشفة، ليس فى مجال الصحافة والإعلام وحده وإنما فى مجالات كثيرة.
وأذكر أنه فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى، وكنت أعمل وقتها صحفيًا فى إحدى الجرائد الأسبوعية الخاصة، أننى أجريت حوارًا مع الفنان الدكتور إيزاك فانوس، أحد رواد فن الأيقونة القبطية فى العصر الحديث، وقال لى إنه مهتم بنقل خبراته لكل تلاميذه من أجل استمرار المدرسة، لأن الفنان يرحل بوفاته، لكن المدرسة تدوم وتستمر بواسطة التلاميذ.
إننا نلمح ظاهرة الأستاذية والتلمذة فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، فى الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، وفى المجال العام أيضًا، فى العمل الجامعى والنشاط الأهلى، بالإضافة إلى مختلف المهن الحرفية التى شهدت نظام «الأسطوات» يعاونهم مجموعة من الصبية أو الصبيان، يتشربون خبراتهم ومهاراتهم، ويصبحون أسطوات ينقلون تجاربهم لآخرين.
كان الشيخ رفاعة الطهطاوى، رائد التنوير فى مصر الحديثة، تلميذًا للشيخ حسن العطار، ومع الوقت صار أستاذًا لكثيرين من طلاب الأزهر وغيرهم من العاملين فى حقول الترجمة والتعليم والفكر والصحافة. وكان السيد جمال الدين الأفغانى الذى عاش فى مصر خلال سبعينيات القرن التاسع عشر أستاذًا لكثيرين من مثقفى مصر والشام، تأثروا بأفكاره الثورية، وأصدروا الصحف. وفى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ظهر الشماس (ثم رئيس الشمامسة وهى رتبة كنسية) حبيب جرجس، الذى أسس خدمة مدارس الأحد «التربية الكنسية»، وكان مُديرًا للمدرسة/ الكلية الإكليريكية، وأصدر مجلة (الكرمة)، ومن بين تلاميذه فى الإكليريكية البابا شنوده الثالث، والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى، وغيرهما الكثير.
ويبرز أيضًا المفكر والمصلح الاجتماعى قاسم أمين، الذى يُلقب بمُحرِّر المرأة، وقد تأثر بكثيرين، منهم الشيخ محمد عبده وأحمد لطفى السيد. وفى المجال السياسى كان مصطفى كامل مدرسة فى الوطنية المصرية له تلاميذ ومريدون، وهكذا سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد. وفى مذكراته يحكى المفكر الاجتماعى سلامة موسى عن تأثره بكثيرين من مفكرى الغرب والشرق. ويبرز الأثرى أحمد كمال باشا الذى فتح آفاق علم المصريات أمام المصريين، ومن بين تلاميذه الدكتور سليم حسن. وكانت الدكتورة سهير القلماوى تلميذة للدكتور طه حسين.
وفى التاريخ القريب برزت مدارس الدكتور أحمد زويل، صاحب جائزة نوبل فى الكيمياء، والجراح العالمى الدكتور مجدى يعقوب، مؤسس مركز القلب بأسوان، والدكتور محمد غنيم، مؤسس مركز أمراض الكلى والمسالك البولية بكلية طب المنصورة، والدكتور هانى الناظر بالمركز القومى للبحوث.
وفى الصحافة، ظهر تلاميذ كثر لصحفيين كبار، أمثال محمد التابعى ومحمد حسنين هيكل ومصطفى وعلى أمين وجلال الدين الحمامصى وأمينة السعيد ومكرم محمد أحمد ومحمود عوض وصلاح عيسى ومجدى مهنا ومصطفى حسين وغيرهم، وهكذا فى مختلف مجالات المعرفة والنشاط الإنسانى.
أطلب من الأساتذة أن يهتموا بمسألة التلمذة، بحيث يتدرب التلميذ«ة» ويتشرب أصول المهنة ويعرف معالم الطريق، ويكتسب الخبرات والمهارات، ولا نقصد أن يعيش التلميذ تحت عباءة أستاذه، ولا أن يصبح التلاميذ نسخة من الأساتذة، وإنما أن يهتم الأساتذة بالإشراف والبناء والتوعية، عبر المناقشة والمتابعة، وأن يسعى التلاميذ للتطوير والإضافة والتجديد، فيصيروا أساتذة يواصلون العطاء.