معركة التنوير
في رده على سؤال “ما التنوير”، الذي طرحه القس الألماني يوهان فريدريش تسولنر (1753 – 1804)، قال الفيلسوف الألماني الكبير الذي يُعد رائدًا للتنوير والفلسفة النقدية والتفكير النقدي، إيمانويل كانط، إن مفهوم التنوير يشير إلى خروج الإنسان من حالة القصور العقلي، الذي يقترفه في حق نفسه، بعدم استخدامه لعقله باستقلالية ودون توجيه من إنسان آخر، واصفًا التنوير بأنه “الجرأة في استخدام العقل”، أي أن يحكم الإنسان عقله فيما يعرض عليه من أمور أو قضايا وألا يسلم زمام تفكيره لأي شخص آخر.
بالأمس نشر الصديق العزيز اللواء نصري نسر تعليقاً على موقف الشيخ محمد متولي الشعراوي من مسألة استخدام العقل وكيف أن استخدام العقل يبعد الإنسان عن الإيمان، وكتبت معلقاً على المنشور، موضحاً موقف تيار النقل من فقهاء المسلمين ومن بينهم الإمام الأكبر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الجامع الأزهر، من العقل في كتابه بعنوان “الإسلام والعقل”، وكيف أن الجدل الممتد منذ المعتزلة وموقف الإمام أبو حامد الغزالي من مسألة إعمال العقل أو الفكر هو المعوق لمسيرة التنوير في مجتمعنا، الذي يسلم غالبية أفراده عقولهم للخرافة بدعوى الإيمان والدين.
غير أن ما شجعني على كتابة هذا التعليق هو ما كتبه الصديق العزيز الأستاذ كمال زاخر، وهو أحد مؤسسي التيار العلماني في مصر، عن الموقف من مسألة “التقليد الكنسي”. فقد أكمل الأستاذ كمال زاخر الحلقة بإظهار ضرورة حدوث مراجعة فكرية لمواقف رجال الدين وآرائهم التي تعوق مسيرة التنوير، وهو موقف في تقديري ليس ناجمًا عن الدين نفسه، وإنما ناجم عن رؤيتهم للدين ودوره، وناجم عن مخالفتهم لآيات بينات في القرآن الكريم، بل في السنة النبوية وفي النصوص الدينية المختلفة، التي على أساسها يقوم زعم رجال الدين هؤلاء بأنه “لا كهنوت في الإسلام”. وعلى الرغم من أن كثيراً من فقهاء المسلمين يختمون حديثهم بعبارة “والله أعلم”، إلا أن ما يمارسونه من سلطة في مواجهة أي رأي مخالف لآرائهم يكشف مدى إيمانهم بأنهم “مُلَّاك للحقيقة المطلقة”.
من اللافت للنظر، أن مقالة “ما التنوير” التي كتبها كانط في عام 1784، أي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، كانت تدور حول مسألة الموقف من الزواج المدني. ولنأخذ من النقاش حول مشروع قوانين الأحوال الشخصية في مصر، بعد تراجع الدولة باعتبارها مؤسسة مدنية تنتصر لفكرة القانون المدني، عن مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية وتفضيلها إحالة الأمر للمرجعيات الفقهية واللاهوتية، نقطة انطلاق جادة للبحث في أسباب تعثر مسيرة التنوير وتعثر ترسخ فكرة الدولة المدنية الحديثة، لا سيما أن هذه القوانين تمس مصالح الأغلبية الساحقة من المصريين.
وكي لا يساء فهم ما أكتبه على أنه موقف من الدين ومن حرية الناس في اتباع تعاليمه فيما يخص شؤونهم الخاصة، فإنني أتحدث هنا عن المرجعية التي يتعين أن نستند إليها جميعاً في شؤوننا العامة وفي المجال العام. لقد تأسست الدولة المدنية الحديثة التي ترسخت فيها فكرة المواطنة وحقوق المواطنين، على أساس مفهوم “السيادة الشعبية”، وهو تجسيد عملي لفكرة أن الناس أعلم بشؤون دنياهم، وما ترتب على هذه الفكرة من تطورات في شكل ممارسة السلطة وشؤون الحكم. وبدون الاعتراف بهذه الحقيقة، سيكون من الصعب إحراز أي تقدم في النقاش العام.
وجدت في التعليقين مناسبة للدعوة للبدء في مثل هذا النقاش الجاد الذي طُرح في مناسبات عدة لكن جرى وأده، والالتفاف على هذه الدعوة وإغلاق النقاش في هذا الأمر، بسبب النفوذ الذي تتمتع به التيارات السياسية الدينية، أو بمعنى أدق بسبب الإصرار على الخلط بين الدين والسياسة، وهو تيار واسع وممتد عبر المؤسستين الدينيتين. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تحالف المؤسستين الدينيتين مع السلطة، أو ممالأة السلطة لهما، يقف عائقًا أمام أي نهضة ممكنة لمجتمعنا. هذا النقاش الذي تأخر كثيراً يجب أن يطرح الآن إذا أردنا إزالة المعوقات أمام مواكبة مجتمعنا للمتغيرات التي يشهدها العالم والتي تضعه على أعتاب مرحلة جديدة لا مجال فيها سوى للتفكير والتفكير النقدي الذي يعين الناس على إيجاد حلول عملية لمشكلاتها.