تحدثت المقالة السابقة عن مدينة «القدس» أيام الدولة الأموية، فى عهد الخليفة «الملك بن مروان» وابنه «الوليد»، ثم «سُلَيمان بن عبدالملك»، ثم تبعيتها للحكم الفاطمىّ، ثم انتزاع الأتراك السلاچقة إياها من الفاطميين إلى أن تمكنوا من استعادتها. ثم كان أن بدأت حملات الفرنج على مدينة «القدس» («أورُشليم») والاستيلاء عليها قرابة تسعين عامًا، حتى استعادها «صلاح الدين الأيوبى» واهتم بترتيب أمورها وتنظيم شُؤونها بعد «صلح الرملة» مع الملك ريتشارد «قلب الأسد».
وقد شهِدت «فلسطين»، خاصة مدينة «القدس»، استقرارًا بعد «صلح الرملة»، الذى نص على إيقاف الحرب بين الطرفين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وجعل للفرنج سيطرة على جزء من المنطقة الساحلية من «يافا» و«قيسارية» و«حيفا» و«أرسوف»، فى حين حكم باقى المنطقة، وبالأخص «القدس»، الأيوبيون. كما نصت الاتفاقية على السماح لمن يريد من الفرنج بزيارة «بيت المقدس» والحج إليه دون دفع ضريبة. لكن ذلك الاستقرار لم يستمر طويلا بعد وفاة «صلاح الدين الأيوبىّ» بسبب النزاعات والخلافات التى نشبت فى البيت الأيوبىّ وتقسيم مملكته بين أبنائه وإخوته، وقد آل حكم «القدس» و«دمشق» لابنه الأكبر «الأفضل نور الدين».
وقد وقعت أحداث بين الأخوين «العزيز» و«الأفضل» بعد أن ازدادت الأمور سوءًا بينهما، وبلغ الفرنج ما يجرى فانتهزوا الخلاف وحاصروا حصن «الجُبَيل» (أو «جَبَلة») سنة ٥٨٩هـ (أو ٥٩٠هـ) (١١٩٤م)، ويذكر «ابن تَغْرِى»: «وبلغ الفرنج ذلك (الخلاف بين «العزيز» و«الأفضل»)، فطمِعوا فى البلاد وحاصروا «جَبَلة»، وكان بها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج. وبرز الملك «العزيز» من «مِصر»، يريد قتال الفرنج فى الظاهر، وفى الباطن أخذ «دمشق» من أخيه «الأفضل» وتدخل عمهما «العادل» للإصلاح بينهما، وصارت «القدس» تحت حكم الملك «العزيز» الذى كان يحكم «مِصر» آنذاك، وبعد وفاته آلت «مِصر» و«دمشق» و«فلسطين» وأكثرية مملكة «صلاح الدين» إلى أخيه الملك «العادل».
حكم الملك «العادل» على «مِصر» و«الشام» فتوحدت البلاد مرة ثانية على يديه بعد وفاة أخيه السلطان «صلاح الدين الأيوبىّ»، ويُذكر أن «العادل» جعل حكم «مدينة القدس» و«دمشق» لابنه «المعظم عيسى» فتولى حكمهما فى أثناء حياة أبيه، وبعد وفاته انفرد بحكمهما إلى أن قضى نحبه.
وقد خرج «المعظم» بجيوشه لمواجهة الفرنج سنة ١٢١١م عندما توجهوا صوب «القدس» للاستيلاء عليها مرة أخرى، واستطاع أن ينتصر عليهم، ثم عمِل على تحصين «جبل الطور» بمدينة «القدس» للتصدى لأى محاولات أخرى لهم. ولم يكُن أمام الفرنج سوى السعى للمصالحة، فأرسلوا إلى الملك «العادل» والد «المعظم عيسى»، طالبين هدنة فأجاب طلبهم.
اختلفت سياسة الملك «العادل» إزاء الفرنج عن سياسة أخيه»صلاح الدين، فكان يميل إلى المسالمة عاقدا الهُدَن الواحدة تلو الأخرى، حتى انتهت الأخيرة وتحركت قوات الفرنج نحو «عكا»، وخرج للقائهم لكن حملتهم تحركت من «عكا» إلى «دمياط» حيث استطاعت الاستيلاء على «برج دمياط». وحين وصل الخبر إلى الملك «العادل» ملكه الحزن حتى وقع مريضًا وتُوُفِّى سنة ١٢١٨م. وفى سنة ١٢٢٠م، هدم «المعظم عيسى» سور مدينة «القدس» وهو ما أضعف من قدرة أهلها والأيوبيين على حمايتها وحراستها من العدُو. وبعد وفاة «الملك المعظم» سنة ١٢٢٧م، آل حكم مدينة «القدس» إلى ابنه «الناصر داود»، لكنه لم يدُم له طويلا، إذ انتزعه منه عمه «الكامل» الذى كان يحكم «مصر» آنذاك.
ازدادت الصراعات داخل الدولة الأيوبية بعد وفاة «العادل»، وتزايدت هجمات الفرنج على «مصر» لإضعافها كى يتمكنوا من الاستيلاء على «القدس» مرة ثانية. فعقد السلطان «الكامل» – ابن «العادل» – صلحًا مع الفرنج وسلَّمهم مدينة «القدس».
و… ولايزال حديث «القدس» يأخذنا، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
- الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى