في الحروب هناك معنى محدد للهزيمة ينصرف إلى انكسار إرادة العدو، ولا يمكن الحديث عن انتصار حقيقي إذا لم يتمكن الطرف المتقدم في المعركة من كسر إرادة خصمه وإخضاعه، وربما هذا هو المأزق الذي تواجهه إسرائيل منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي شَكَّل إهانة لا تمحى للجيش الإسرائيلي، وجهتها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، ولا الإهانة التي يتعرض لها يومياً، في الجبهة الشمالية على أيدي حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان.. الجيش الإسرائيلي غير قادر حتى هذه اللحظة على كسر إرادة المقاومة أو توجيه ضربة قاصمة لفصائلها، والأرجح أنه لن يتمكن من تحقيق ذلك، رغم التفوق الساحق في التسليح والذخيرة، لاعتبارات تتعلق بمثل هذا النوع من الحروب غير المتكافئة حسب تقدير كثير من الخبراء العسكريين في إسرائيل والغرب.
بين التسويات المرحلية والتسوية التاريخية
الأطراف المتحاربة تذهب عادة إلى طاولة التفاوض عندما تقتنع بأن الوسائل العسكرية لا تقدم حلا واضحا للصراع ويسعى كل طرف للحصول من خلال طاولة التفاوض على ما لم يتمكن من تحقيقه في ميدان القتال، وتتوصل الأطراف المتصارعة إلى تسويات مرحلية على الأغلب إذا كان الصراع ينطوي على نقاط يصعب التوصل إلى تفاهمات تنهي حالة الصراع. وإذا أخذنا حالة اتفاقية أوسلو، التي توصف بأنها اتفاق مرحلي، كمثال يمكن القول أنه تسوية مرحلية عدلت من مواقف طرفي الصراع الذي لم ينته لصعوبة التوصل إلى تفاهم بشأن ما يعرف بقضايا الحل النهائي التي تشمل اللاجئين والقدس والمستوطنات والدولة والحدود، وهو ما تأكد في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في عام 2000، من أجل التوصل إلى اتفاق على إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من خلال ترتيبات أمنية متبادلة..
إن الجائزة التي كان من المتصور أن تحصل عليها إسرائيل مقابل إبرام هذا الاتفاق، والتي تتمثل في تطبيع العلاقات مع الدول العربية، حصلت عليها دون أن تقدم أي تنازل لحل الصراع مع الفلسطينيين، بل العكس إنها تمكنت من إبرام اتفاقيات لتطبيع علاقاتها مع دول عربية بالرغم من مواصلة سياسات الاستيطان ودفع العالم للاعتراف بالقدس عاصمة لها، وإجبار مزيد من الفلسطينيين، في القدس والضفة الغربية وغزة، للنزوح للخارج بدلا من السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم، ولم يعد هناك ما يدفعها للعدول عن سياساتها العدوانية والتوسعية تجاه الفلسطينيين وتجاه سوريا ولبنان والتهديد بتوسيع الحرب لتشمل إيران ودول أخرى، بدعم أمريكي واضح. ونظراً لأن حقوق الشعب الفلسطيني هي حقوق غير قابلة للتصرف من وجهة نظر القانون الدولي، ونظراً لأن المقاومة حق مشروع وهي مستمرة إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق يغير من قواعد اللعبة، على الأقل، إذا تعذر إنهاء الصراع، فمن غير المرجح أن تنتهي الجولة الراهنة للصراع المتمثلة في حرب غزة إلى إحداث تعديل جوهري في الموقف.
صراع الوجود وصراع الحدود
تقوم النظرية الواقعية في العلاقات الدولية على مفهوم “الصراع” التي تنطلق من أن الصراع هو الوضع الطبيعي للعلاقات بين الدول، أحيانا يطلق على هذا الصراع لفظ “التنافس” للتخفيف من وقع كلمة “الصراع”، لكن التنافس في حقيقته ليس سوى شكل من أشكال “الصراع” المدار من أجل التخفيف من حدته أو شدته. إن الانطلاق من الإقرار بفكرة “الصراع” يسمح يالتوصل إلى تفاهمات بخصوص إدارة هذا الصراع وتحويله من مباراة صفرية إلى مباراة غير صفرية يمكن لأطرافه تحقيق قدر من المكاسب، وهذا يؤسس لفكرة صراع الحدود، والحدود لا تعني هنا الحدود الجغرافية للدول فقط وإنما حدود نفوذها وسيطرتها أيضاً، وهي مسألة قابلة للتعديل وفقا لتغير موازين القوى، على النحو الذي نراه في العلاقات الأمريكية الصينية مثلاً وفي حالة الصراع العربي الإسرائيلي الأوسع.
إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الآن هو كيفية الانتقال من صراع الوجود إلى صراع الحدود، وهي مسألة بالغة الصعوبة نظراً لتحكم الرؤى الأيديولوجية لدى طرفي الصراع، لاسيما الطرف الإسرائيلي الذي لا يجد قوى تلجمه داخلياً أو خارجياً. إن الخروج من المأزق الراهن يشترط إعادة تشكيل الساحة السياسية الإسرائيلية لدفع قوى اليمين المتطرف إلى الوضع الهامشي في السياسة الإسرائيلية مرة أخرى، ولا يمكن لهذا الأمر أن يتحقق إلا بزيادة الضغوط الخارجية على إسرائيل وتلجيم قدرتها على شن العدوان، مع اتخاذ ما يلزم من ترتيبات للتدخل النشط في حالة تعرضها لتهديدات وجودية.
ثمة واقعة ينبغي الوقوف عندها عند في التفكير في مواقف القوى العربية، تتعلق بكيفية كسب المعارك، هذه الواقعة لها صلة مباشرة بسيرة المفكر الفرنسي روجيه جارودي أحد المنتقدين للصهيونية رغم أنه ولد ونشأ في أسرة يهودية فرنسية، قبل اعتناقه الإسلام. هذه الواقعة تحمل من الدلالات ما يدفعنا إلى إعادة النظر في مفهومنا لمعنى الهزيمة الحقيقية. فالهزيمة الحقيقية تتحقق عندما يتبني الطرف المهزوم منطق عدوه، والانتصار الحقيقي إنما يكون بتمسك الطرف المهزوم الذي يقاوم بمنطقه ومنظومته القيمية والأخلاقية…
تروي الواقعة أنه أثناء اعتقال جارودي ووضعهِ في أحد المعتقلاتِ الفرنسية بالصحراء الجزائريَّة ما بين عامي 1940/ 1942، حدثت واقعة داخلِ المعتقلِ قلبت حياة جارودي رَأسا على عقبَ، حين رفضَ شبَّانٌ جزائريُّون يرتدونَ البزَّة العسكريَّة الفرنسيَّة إطلاق النَار عليه غَداةَ الشُّروعِ في تنفيذِ حكمِ الإعدامِ ، مُنطلقين من فكرةِ ساميَّة مفادها أنَّ ليسَ من شرفِ المقاتلِ العربيِّ ذي التربيَّةِ الدِّينيَّةِ السِّمحةِ اغتيالَ إنسانِ أعزلَ وهوَ مُقيَّدٌ بالأصفادِ والأغلالِ، وبعيدَ هذهِ الواقعةِ اِزدادَ حبُّ غارودي للعربِ، وصمَّمَ على نُصرتهم، ومُشايعةِ قضاياهم فيمَا يتعلَّقُ بأرضهم المغتصبَةِ، ومحاربةِ سَرطانِ إسرائيل الذي تمَّ حشوه في قلبِ فلسطينِ بفِعلِ وعدِ بلفور اللَّعين سنة1917.
هل نستطيع فهم دلالة قصة جارودي؟
إذا فهمنا دلالة انتفاضة أطفال الحجارة في عام 1987 التي غيرت معادلات كثيرة في القضية الفلسطينية سنفهم دلالة قصة جارودي وسنفتح طريقا جديدا للنصر في معركتنا التاريخية