في قريتي “أولاد اليأس”، تلك القرية الصغيرة النائية البعيدة عن صخب العاصمة، تأخذ الاحتفالات معانٍ أعمق وأكثر بهجة. هناك، تلامس الاحتفالات الروح والنفس وترسم البهجة بدلاً من تلك الشكلية هنا في العاصمة، واحدة من أهم هذه الاحتفالات الشعبية هو عيد الملاك ميخائيل الذي يحظى بمكانة خاصة لدى المسيحيين وخاصة أهل قريتي.
التحضيرات لعيد الملاك:
تبدأ هذه التحضيرات قبل يوم الاحتفال بيومين، حيث يقومن الأمهات والخالات والأخوات بالتجمع والتحضير لخبز العيش الشمسي، وهو خبز يتطلب صناعته مجهودًا بدنيًا كبيرًا، يقارب الذهاب للجيم وممارسة تدريبات رياضية شاقة. تُجهز النساء الخميرة في وعاء كبير، وتضع الدقيق والماء وتعجنهم وتغطي الوعاء حتى يختمر.
يذهب نساء العائلة لإعداد أكلة الحلو، وهي أكلة جميلة تُصنع من خلط العسل الأسود مع الدقيق والماء، وتُرفع على النار مع إضافة القليل جدًا من حبات الفلفل الأسود التي تمنحها مذاقًا لا يقاوم.
قبل العيد بيوم ومع السادسة صباحًا، يحملن النساء وعاء الخميرة والدقيق إلى مكان الفرن، وغالبًا تكون على سطوح المنزل، وتبدأ عملية العجن وصناعة الخبز.
بعد عملية العجن، يُقطع العيش الشمسي على “المقارص”، وهي صوانٍ صغيرة دائرية تستخدم ليوضع عليها الخبز الذي يأخذ شكلًا دائريًا، وتُصنع هذه المقارص تقليديًا من نفس طريقة صناعة الطوب اللبن، ولكن بنات اليوم يصنعنها من بقايا الأوراق أو الخشب.
طقوس الخبز:
أثناء عملية الخبز، ترتب النساء ترانيم خاصة بالملاك ميخائيل، ويتشفعن به، ويرددن الأماني والأمنيات بشفاعة الملاك، وتؤمن النساء أن هذه الأماني ستُستجاب.
بعد ذلك يُوضع الخبز تحت أشعة الشمس ليختمر، تقوم النساء بفتح أربع فتحات في جوانب الأرغفة، ثم يُضغط في منتصف الرغيف ليخرج أربعة قرون، وهي الأجزاء المفضلة لدى الأطفال.
بعد اختمار الخبز، تقوم الأمهات بوضع الخبز في فرن مصنوع من الطوب اللبن، بُني خصيصًا لهذا الغرض في تسوية الخبز، ويتم بناؤه بواسطة رجل بناء متخصص في صناعة الأفران. بعد أن ينضج الخبز، يُخرج من الفرن وتبدأ المنافسة بين الأطفال على الرغيف الأول، حيث يعتقدون أنه يحمل كل البركات من الملاك ميخائيل.
الأمهات الحكيمات يقمن بخداعهم وبخفة عن طريق إخراج عدة أرغفة في نفس الوقت من الفرن، وذلك لتجنب الخلافات بين الأبناء. يعتقد الأطفال أن الملاك أرسل الخبز بعدد الأطفال الموجودين.
توزيع الحلو والخبز:
في اليوم التالي، وبعد نهاية صلوات القداس، تبدأ عملية توزيع أطباق أكلة الحلو وأرغفة العيش الشمسي الصغيرة التي صنعت خصيصًا لعيد الملاك، على الأحبة والجيران.
أولهم جيراننا المسلمون الذين ينتظرون هذه الهدايا بفارغ الصبر. وهو أمر اعتادت عليه قريتنا الجميلة، وهي عادة تعزز روابط المحبة وتجعلنا في القرية عائلة واحدة. في المقابل، يرد الجيران المسلمون هذه الهدايا بأخرى مماثلة في أعيادهم، مما يخلق جوًا من التآلف والمحبة بين الجميع.
ذكريات الطفولة:
في طفولتنا، كنا ننتظر الرغيف الأول من الخبز، معتقدين أنه يحمل بركة خاصة من الملاك. وكانت الأمهات يحرصن على إخراج عدة أرغفة معًا لتجنب الخلافات. وكنا ننتظر لحظات توزيع الحلو والعيش الشمسي، في تلك الأيام المليئة بالبراءة والبساطة.
أحلى طبق حلو:
كنا كأطفال ذكياء، عندما تسألنا الأمهات والعمات والخالات والأخوات عن رأينا في طبق الحلو والخبز، هناك إجابة واحدة: “أحلى طبق حلو السنة دي”. وهذا الأمر يضمن لنا معاملة خاصة وعظيمة لمدة اسبوع على الاقل .
تغير الزمن:
مع مرور الزمن وتسارع وتيرة الحياة، والعيش في القاهرة، تزداد لحظات الحنين إلى قريتنا وأهلها البسطاء. ورغم أن وسائل التواصل قربت المسافات، إلا أن الحياة أصبحت أكثر تعقيدًا وأقل بساطة، مما جعل الناس مشغولين عن الضحك والحب والفرحة والاحتفال.
تبقى هذه الاحتفالات جزءًا لا يتجزأ من الذكريات للأيام المحفورة في قلوبنا، تضحكنا وتبكينا على ماضٍ جميل ليس ببعيد.