لألبرت أينشتاين مأثورة تلخص قصة هذا المقال: “الروح العظيمة تواجه دائما معارضة من متوسطي الذكاء”.محزن أن يجترئ نفر من المتثاقفين على المقام العالى، وأن يتجرأون فى أخر الزمان على سيرة عميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين” طيب الله ثراه..العميد العتيد وكأنه فى حياته أستشرف حال هؤلاء، ورد عليهم فى حياته قبل أن يولدوا بزمان ..في وثيقة نادرة بعنوان “أنا”، يقول العميد فيها: “إن كان حقاً بعض الناس يعرفون أنفسهم معرفة تتيح لهم أن يتحدثوا فيسرفوا أو يوجزوا في الحديث عن أنفسهم تلك التي يعرفونها أو يزعمون انهم يعرفونها، فإنني لا يضيرني أن أعترف بأني لست أعرف نفسي، ولكني أعرف في نفسي خلالاً قد يعرفها بعض الناس وقد ينكرونها، أعرف فيها أنها نفس مؤمنة لا يزلها عن إيمانها أن تكون على رأي والناس جميعاً على رأي. وأعرف فيها التصميم حين تريد، وأعرف فيها الصبر على بأساء الحياة ونعمائها جميعاً.على هذا الإيمان وهذا التصميم وهذا الصبر، مضيت في الحياة منذ كنت، إن الإيمان والتصميم والصبر هي الحياة التي تحقق معنى وجود الإنسان الحي الممتد بآثاره الإنسانية الباقية”..**المستشرق الفرنسي الكبير ” لويس ماسينيون “، عمدة المستشرقين فى زمانه ( 1883-1962 م ) أرسل خطابا إلى العميد وكأنه مكتوب بالأمس القريب، خطابا يشد فيه على يديه ويقول له:«في عالم المبتزين الجبناء تتألق شجاعتك فتواسي العاجزين عن الاستشهاد من أجل العدل، لذلك أدعو الله أن يباركك لقاء الزكاة الروحية التي تؤديها للشعب الذي أنجبك».**لو قرأوا تاريخه و أطلعوا على سيرته العطرة لتواروا خجلا ..تفجرت أولي معارك حسين في عام 1926م عندما أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي احدث ضجة هائلة حيث رفعت دعوى قضائية ضده، فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع واوقفت توزيعه، ونشبت معارك حامية على صفحات الجرائد بين مؤيد ومعارض للكتاب.وبعد عامين تفجرت المعركة الثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب، الأمر الذي اثار أزمة سياسية انتهت بالاتفاق مع طه حسين على الاستقالة، فاشترط أن يعين اولاً وبالفعل عين ليوم واحد ثم قدم استقالته في المساء وأعيد “ميشو” الفرنسي عميداً لكلية الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة ميشو عام 1930 اختارت الكلية طه حسين عميداً لها، ووافق على ذلك وزير المعارف الذي لم يستمر في منصبه سوى يومين بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة.في عام 1932 قرر الملك فؤاد منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض السياسيين الموالين له، وحين طلب وزير المعارف ذلك من طه حسين، أجابه: “عميد الجامعة ليس عمدة بلد”..! وقال له “إن الجامعة هى التى تمنح هذه الدرجات بوحى من نفسها ،لا بوحى من الحكومة، ولا تستطيع أن تمنحها لأفراد حزبيين”، فاضطرت الحكومة اللجوء إلى عميد كلية الحقوق الذى قبل ما رفضه طه حسين.رداً على ذلك قرر وزير المعارف نقل حسين إلى ديوان الوزارة، فرفض العمل وتابع حملته في الصحف والجامعة، كما رفض تسوية الأزمة إلا بعد إعادته إلى عمله، وتدخل رئيس الوزراء إسماعيل صدقي فأحاله الى التقاعد في 29 مارس 1932 فلزم بيته ومارس الكتابة في بعض الصحف.حينها قال لزوجته: «إننا لا نحيا كي نكون سعداء»، لكنه في رسالة أخرى يوضح لها «إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب التي يواجهها».عن تلك الفترة تقول زوجته: “لم يكتفوا هذه المرة بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وانما أرادوا أيضا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه واغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبانذارهم البعثات الاجنبية في مصر بالكف عن ان تقدم له عروضا للعمل”.كانت المقاطعة تامة من جانب اغلب المؤسسات الجامعية والصحافية. وحدها الجامعة الاميركية تجرأت ودعت طه حسين لالقاء بعض المحاضرات. ثم عاد للجامعة في نهاية عام 1934، حتى أحيل للتقاعد فى 16 أكتوبر 1944 .فى 13 يناير 1950 عندما عين لأول مرة وزيراً للمعارف، رفض الملك فاروق اختيار طه حسين وزيراً للمعارف لأنه «شيوعى».. وتراجع عن موقفه تحت إصرار مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء، لكن طه حسين فاجأ النحاس برفض تولى وزارة المعارف إلا بشرط واحد وهو تطبيق مجانية التعليم، ووافق النحاس تحت إصرار طه حسين.**”إنني لا أسلك الطرق المطروقة ولا أشرب من الحوض المباح وأعاف ما تبتذله الدهماء”.. هكذا يرد العنيد بإباء وشمم..ليس بجديد على الأسماع، العميد العنيد قاسي الأمرين من جهل الجهلاء، ولايزال من قبره يثير جدلا، بين مؤيد ومعارض فحين يري الكثيرون أن أعماله تعتبر من أهم الروافد التى يتسلح بها المفكرون العرب سعيا نحو مزيد من النهضة والتقدم، وأن ما خلفه من عطاء يعد أهم مصادر الاستناره فى الحياة النقدية فى العالم العربي، حيث يحظى بمكانة مرموقة في الفكر العربي باعتباره نموذجا للمفكر الموسوعي الذي يؤمن بأن له دورا اجتماعيا يتجاوز حدود المنهج الدراسي وأسوار الجامعة فهو الذي أطلق صيحة “التعليم كالماء والهواء”.. وعلي النقيض نجد من يتهمه بأنه سعى إلى زرع الأساطير والشبهات فى قلب السيرة النبوية، واتهمه المحافظون بالزندقة وتشويه الإسلام.لكن طه حسين نفسه يؤكد “إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين؛ إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل”، ويتساءل: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟!انتقل طه حسين من بيئة التسليم فى مصر إلى بيئة التشكك فى أوروبا، وأعجب بفلسفة ديكارت الشك واليقين والفرض وتحكيم العقل فى كل شيء وبدأ رحلته فى التفكير، وعندما أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” أحدث ضجة هائلة ومازال حتي الآن يواجه المعارضين له، بالرغم من أن المؤلف أوضح من البداية منهجه الذي سلكه قائلا: “سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة.أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة، يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا”.