«احتلال العقول» استراتيجية يطبقها عدد من صناع القرار وأجهزة الاستخبارات على مستويات عديدة في العالم من أجل السيطرة على الجماهير، وإدارتها ودفعها سلوكياً لتنفيذ رغبات قادة العالم. يتم ذلك على نطاق واسع منذ الحقبة الاستعمارية، وتقوم تلك الاستراتيجية على إيهام البشر بأن ما يتخذونه من قرارات نابع من إرادتهم الحرة، بينما في الواقع هم يحققون «أهداف ورغبات المسيطر»، سواء كان فرداً أو مؤسسة أو حكومة أو دولة. يمكن أن نطلق على ذلك نظرية «الفأر وقطعة الجبن والمصيدة»؛ حيث يتوهم الفأر أنه سيفوز بقطعة الجبن، وهو في الحقيقة يذهب بقدمه إلى المصيدة. لذا قال الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر عبارته الشهيرة: «إذا احتل العدو أرضك فليس صعباً عليك استردادها، أما إذا احتل عقلك فقد استعبدك إلى الأبد».
«احتلال العقول» يتم عبر إغراق البشر في فخ تزييف الوعي والسيطرة على اتجاهاتهم الفكرية ودفعهم إلى تحقيق مصالح الطرف «المخطط»، وجعلهم يشعرون أن المصلحة مصلحتهم، والقرار قرارهم، وهم في الواقع مجرد منفذين لرغبات ومخططات الآخرين وتحقيق مصالحهم. لذا يدعم هؤلاء كل شاذ ومنحرف، ويساندون كل فاسد ولص، ويقفون بجوار كل خارج عن القيم وناهب لثروات بلاده، بل ويجعلون من هؤلاء نجومًا ويجلسونهم في الصفوف الأولى. فالهدف قتل القيم والمبادئ والوطنية وتقديم القدوة المزيفة للأجيال الجديدة عبر أشخاص مستعدين لبيع أي شيء مقابل مصالحهم الشخصية الضيقة.
اللافت خلال العقود الأخيرة أن احتلال العقول لم يعد فقط عبر السيطرة على عقول الجماهير في اتجاه واحد، بل امتد ليشمل الرهان على التلاعب بالبشر لدرجة توجيه الجماهير إلى الإيمان بالشيء وعكسه، وتكوين الرأي وعكسه حول نفس الشخص أو الحكومة أو الدولة. الهدف أن يتوه الأشخاص وبالتالي تتوه المجتمعات. فيصبح الفرد إما أسيرًا ورهينة لتصور ذهني خاطئ ومضر ومدمر، أو يكون شخصًا مرتبكًا لا يعرف أين يقف، ولا يعرف ماذا يفعل، ولا يعرف إلى أين يذهب.
الإنسان في العالم العربي منذ صغره يخضع لما نسميه «احتلال العقول»، حيث يتم التحكم في عقله وطريقة تفكيره حتى يصبح تحت السيطرة، ولا يخرج عن السياق المرسوم له. خاصة أن المنطقة العربية محل أطماع الكثيرين من اللاعبين محلياً وإقليمياً ودولياً. محمد رمضان ذلك الفنان الموهوب البسيط، كان منذ سنوات قريبة يبحث عن فرصة لإثبات ذاته، مجرد فرصة لشاب يريد أن يكون فنانًا ويستثمر موهبته. فجأة فتحت له الأبواب على مصراعيها بعد أن استقطبته الماسونية العالمية، وأصبح يستخدم شعاراتها في أعماله الفنية وحفلاته، وبات يروج لما يريده من يديره مقابل النجومية والشهرة والمال والحماية. تم استخدامه مؤخرًا عبر دولة الإمارات للترويج للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، دون أن يشغله رد الفعل الشعبي الرافض للتطبيع لأنه يعرف أين يقف ومن يحميه ويدرك حجم المكتسبات الضخمة التي يحصل عليها. إلا أن العالم العربي بالتزامن مع الحرب الصهيونية الدائرة على قطاع غزة وتحول الرأي العام بشكل غير مسبوق ضد إسرائيل، فوجئ بـ«محمد رمضان» يخرج أكثر من مرة يطالب بالحرب مع الكيان الصهيوني، وينتقد بشكل غير مباشر موقف الأنظمة الحاكمة في الدول العربية مما يحدث في غزة. وسبق ذلك قبل نحو عام، عقده لقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن). هنا لا نعرف من نصدق: رمضان المطبع مع الكيان الإسرائيلي أم رمضان الذي يدعو للحرب ويناصر القضية الفلسطينية؟! هذا هو المقصود تمامًا عزيزي القارئ أن ترتبك ولا تعرف الذي أمامك صديق أم عدو، ولا تعرف أين تذهب! ومع مرور الوقت تتعايش مع الوضع وتتعامل مع «العدو أبو لسان حلو» على أنه صديق، وتفضل المصلحة الشخصية الضيقة على أي شيء. هذا هو الهدف الرئيسي لما يحدث حولك منذ عقود.
في ذات السياق، خرج علينا مطرب شاب يدعى «ويجز» تم تلميعه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ودعوته للمشاركة في مناسبات فنية عالمية مع إنتاج فني ضخم، لينال شهرة واسعة لا تتناسب مع قيمة ما يقدمه. خرج ليؤكد مناصرته للقضية الفلسطينية، بعد سنوات من استخدام رموز الماسونية في أغلب حفلاته الغنائية، وكان يرتدي فيها ملابس لا تناسب أخلاقنا، ولا عاداتنا، ولا تقاليدنا، ولا ذوقنا، في محاولة للتلاعب بعقول الشباب العربي وتغيير قيمه وعاداته وتقاليده كجزء من مخطط أكبر للغزو الثقافي والفكري. خلال الساعات الماضية وجدنا حملة منظمة على السوشيال ميديا تؤكد أنه رفض 18 مليون جنيه لعمل إعلان لشركة بيبسي لأن شركات المياه الغازية «بيبسي وكوكاكولا» تقومان بـ«دعم إسرائيل» لـ«قتل أبناء الشعب الفلسطيني». رغم أن البعض قالوا إن «ويجز» رفض الإعلان لاعتبارات مادية وليست أخلاقية أو إنسانية، حيث أنه طلب 25 مليون جنيه مقابل الظهور في الإعلان. هذا السبب الحقيقي لاختلافه مع الشركة، وأن الأمر ليس له علاقة بالقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد. لكن الحملة المنظمة لصالح المطرب الشاب – صنيع الماسونية – كل هدفها أن تغسل سمعته وتجعل منه بطلًا قوميًا عروبيًا تجهيزًا لدوره القادم.
في الواقع، كان يمكن أن نصدق رمضان وويجز، وأنهما تراجعا عن موقفيهما، لو خرجا علينا وأعلنا ندمهما على ما فعلاه خلال السنوات الماضية من دعم للماسونية والتطبيع مع إسرائيل، وأنه تم التغرير بهما، واعتذرا عما حدث، وشرحا الأمر للشعوب العربية. إنما يمارسان الشيء وعكسه، دون تفسير واعتذار عما ارتكباه خلال السنوات الأخيرة، لا يعني إلا أن ما يتم ليس إلا نوعًا من المناورة وغسيل السمعة، بشكل يتطلب الحيطة والحذر. ما يحدث من مواقف هنا أو هناك، وتدعمه جهات مختلفة، ليس إلا تغطية على عملاء تم كشفهم مبكرًا، ويبدو أن لهم أدوارًا في قادم الأيام. علينا أن ننتبه جيدًا.
عزيزي القارئ، إذا شاهدت إعلانات شركات بيبسي وكوكاكولا وغيرها، سوف تكتشف بوضوح أن كل من شاركوا في تلك الإعلانات، يبحثون عن مصالحهم الشخصية فقط، لا يهمهم الوطن أو القومية أو الدين إلا بقدر ما يربحون من وراء الثلاثة. عندما تتعارض مصالحهم الشخصية مع المصلحة العامة يختارون أنفسهم. الغريب أن الأمر نفسه تطبقه الملايين لكن على مستويات أقل. الشهرة والنجومية جعلت نجوم الإعلان في مرمى النيران من عدد كبير من المصريين. الهدف الرئيسي لما يحدث حولك منذ عقود هو أنك مع مرور الوقت تتعايش مع الوضع الخطأ وتتعامل مع «العدو أبو لسان حلو» على أنه صديق، وتفضل المصلحة الشخصية الضيقة على أي شيء. انتبه.
نظرية «احتلال العقول» تطبق في مختلف الدوائر دوليًا وإقليميًا ومحليًا، تطبق على مستوى الدول والحكومات، وعلى مستوى الأفراد. جزء من الغزو الثقافي والفكري معني باحتلال العقل، وتشكيل الوعي الجمعي إيجابًا وسلبًا. بالعودة للوراء سوف تكتشف أن أمريكا انتصرت في الحرب على العراق إعلاميًا قبل أن تنتصر عسكريًا. جندت العالم لتدمير بلد كامل وقتل الملايين من أبنائه بحجة وجود أسلحة دمار شامل، ثم كشفت السنوات أن هذه كذبة كبرى. واشنطن أوهمت العالم أن الإسلام والإرهاب مترادفان باستخدام كل أساليب احتلال العقول، ثم كشف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أن داعش صناعة إدارة أوباما. داعش التي اختفت خلال الأشهر الـ8 الأخيرة ولم نشاهد لها عملية واحدة ضد إسرائيل ولا نقرأ لها بيان واحد لمساندة أهل غزة! وهي نفسها أمريكا التي صنعت تنظيم القاعدة لمحاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ثم استخدمتها لضرب استقرار الكثير من دول العالم، بل استخدمتها لخداع العالم في 11 سبتمبر 2001 لضرب برجي التجارة العالمية ثم ثبت مع الوقت أن العملية من تنفيذ المخابرات الأمريكية بالتنسيق مع الصهيونية العالمية تمهيدًا لاحتلال ونهب ثروات الدول الإسلامية. مع تطور السوشيال ميديا أدركت الشعوب مؤخرًا أن الجماعات الإرهابية صناعة دولية كبرى يستخدمها الغرب والأنظمة المرتبطة به لتمرير أجندة سياسية عبر عمليات عسكرية وإرهابية قذرة يتم تنفيذها في البلاد التي ترفض الخضوع للنظام العالمي الذي تم تحديد ملامحه منذ صلح وستفاليا 1648. من يخرج عليه يكون مص
مصيره القتل والدمار حتى لو احتاج الأمر إشعال حرب عالمية كما حدث عامي 1914 و1945، أو إشعال حروب محدودة، أو صناعة مليشيات تنفذ حروبًا أهلية، أو خلق أزمات وتوظيف صراعات وصولًا إلى الاغتيالات.
احتلال العقول جعل الشعوب العربية الرافضة لفساد الأنظمة الحاكمة والمحتكرة للسلطة والنفوذ في يد عدد قليل، تقتنع بالرواية الغربية الطامعة في ثروات شعوبنا والتي تم تنفيذها عبر آلاف من العملاء والممولين والمخدوعين. الحل مع تلك الأنظمة يكمن في الثورة الشعبية على الحاكم والتخلص منه بعيدًا عن صناديق الاقتراع، حتى لو بإشعال الفوضى واستخدام السلاح، معتقدين أن القادم سيكون أفضل. وكانت النتيجة حروب أهلية وصراعات ممتدة على السلطة وتشريد 35 مليون مواطن خارج بلادهم، وقتل 4 ملايين مواطن، وانهيار اقتصادي واسع، وارتفاع جنوني في الأسعار، وزيادة معدلات الفقر، وغياب الأمن، ومنح ثروات بلادنا على طبق من ذهب للطامعين واللصوص، وطامعين في السلطة مستعدين لدفع الغالي والنفيس لمن يدعم استقرارهم على كرسي الحكم، لدرجة أن أغلب الشعوب العربية ندمت على الثورة ضد حكامها وعرفت أنها كانت ضحية خدعة كبرى من جانب التحالف الصهيوأمريكي لترتيب أوراق المنطقة بهدف تحقيق مصالح الغرب وليس العرب، لكنه ندم بعد فوات الأوان، ومعرفة متأخرة جدًا.
احتلال العقول هو ما جعل الرواية الإسرائيلية الكاذبة تربح الرواية الفلسطينية الصادقة على مدار عقود طويلة. ورغم زيادة الوعي العالمي أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الدائرة منذ 8 أشهر، بسبب السوشيال ميديا وتغير نظرة العالم لما يحدث في «الأرض العربية المحتلة» وباتت الرواية الفلسطينية أكثر حضورًا وبات العالم يدرك حقيقة الكيان الصهيوني، إلا أن «العقول المحتلة» ما زال الكثير منها يصدق مذبحة الهولوكوست رغم عدم وجود أي صورة لها، ويكذب المذابح التي تقوم بها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 رغم أنها تبث صوت وصورة على الهواء مباشرة. وهو ما يعني حاجتنا لمزيد من الجهود في مواجهة التزييف الغربي الصهيوني.
عزيزي القارئ، احتلال العقول يشبه السحر ويصل لدرجة أنك لا تصدق ما تراه بعينيك، ولا تصدق ما تسمعه بأذنيك، وتشُك في كل حقيقة، وتصدق كل وهم وتضليل. الأمر يعتمد بوضوح على ثنائية الجهل بالمعلومات الصحيحة والإغراق بكل ما هو كاذب ومضلل، حتى لا تملك من أمر نفسك شيئًا، وتصبح وكأنك تحت تأثير مخدر شديد المفعول، مسلوب الإرادة، ومشلول الفكر، وممنوع من أي فعل في الاتجاه الصحيح. وهو ما يفسر الكثير من الأحداث وردود الأفعال في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يستوجب تحركًا وطنيًا وقوميًا واضحًا للتخلص من احتلال الأعداء لعقولنا بعد عقود من تخلصنا من احتلال بلادنا. فلا استقلال تام وعقولنا محتلة لصالح الأعداء وحلفائهم.