اليوم كان يوماً مبهجاً بالنسبة لي، فقد تابعت بشغف وسعادة رسامة اثنين من أصدقاء الطفولة ككهنة في إيبارشية طما. كان قلبي ينبض بالفرح والاندهاش، وتملكتني مشاعر مختلطة من الدهشة والإعجاب.
وجدت عقلي يسبح في بحر من الذكريات الجميلة، تستحضر لحظات طفولتنا في المرحلة الابتدائية والإعدادية ومدارس الأحد. كانت الاجتماعات الروحية والنهضات وأيام الخدمة الطويلة كلها تمر أمام عيني كشريط سينمائي حي، يعيد لي تفاصيل تلك الأيام الجميلة.
الفخر بشرف الرسامة
سعادتي لهذا الحدث الهام تنبع من عمق القيمة الكبيرة والشرف العظيم الذي تربينا عليه. فعندما يتم اختيار شخص ليصبح كاهناً، فإن ذلك يعتبر تكريماً يفوق بكثير أي منصب قيادي آخر، سواء كان عضو مجلس النواب أو غيره.
ذكريات الطفولة الجميلة
كانت الذكريات تتدفق داخل عقلي وتغمرني بالفرح. تذكرت أيامنا في مدارس الأحد، حيث كنا نتشارك في الأنشطة المختلفة، من الرحلات إلى الاحتفالات، ومن المسرحيات إلى حفلات عيد النيروز. كل هذه اللحظات كانت مليئة بالبهجة والسعادة، وكونت جزءاً كبيراً من شخصياتنا اليوم.
فرحة بلا حدود
الفرحة التي شعرت بها ومعي أهالي قريتي اليوم لا يمكن وصفها بكلمات. إن رؤية أصدقاء الطفولة يتم اختيارهم لخدمة الكنيسة ليست مجرد لحظة عابرة، بل لأننا تعلمنا منذ الصغر أن نقدر ونحترم رجل الدين، خاصة في مجتمعنا بالصعيد، حيث يتمتع الكاهن بمكانة كبيرة واحترام واسع.
القس يوسف ميلاد مرقص (بهجت ميلاد)
نبدأ ببهجت ميلاد الذي سيم كاهنًا باسم القس يوسف بهجت، تاركًا وراءه اسمه العلماني ليحمل اسماً كهنوتياً جديداً يعكس دوره الروحي الجديد. بهجت كان زميلاً لي في نفس السنة الدراسية، ورغم أننا لم نكن في مقعد دراسي واحد في المرحلة الابتدائية، إلا أننا تزاملنا سوياً في فصول مدارس الأحد. كانت تلك الأيام مليئة بالأنشطة المشتركة والرحلات والاحتفالات والمسرحيات، وحفلات عيد النيروز التي كانت تجمعنا بفرحة غامرة. لم تكتمل ذكرياتنا دون رحلاتنا إلى دير السيدة العذراء الشهير بالجنادلة الغنايم، حيث كنا نستمتع بالأجواء الروحانية والأنشطة الكنسية.
بهجت، وله نصيب من اسمه، كان دائماً عنواناً للبهجة والابتسامة والخلق الرفيع. منذ طفولته وحتى شبابه اليافع، كان يفيض بهجة وحيوية. كان بشوشاً، هادئاً، وكلامه قليل لكنه كان يحمل محبة كبيرة للجميع. يشارك الآخرين بفرح ويقدم الدعم لكل من حوله.
ذلك جعله محبوبًا ، وأعتقد أن هذه المحبة هي التي جعلت اختياره كاهنًا قرارًا طبيعيًا ًمقبول من الجميع.
رسامة بهجت ككاهن لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل كانت تتويجًا لسنوات من الخدمة والتفاني في حقل الكنيسة. لقد شاهدته ينمو ويتطور، ويتحمل المسؤوليات بجدية واهتمام. اختياره لهذا المنصب الدينى يعكس الثقة الكبيرة التي وضعتها الكنيسة فيه، ويؤكد على استحقاقه لهذا الشرف الكبير.
رؤية القس يوسف اليوم ككاهن، تعطينا جميعًا شعورًا بالفخر والاعتزاز. إنه ليس فقط تتويجًا لمسيرته الشخصية، بل هو أيضًا تكريم لكل خدام القرية الذين يشاركون معه.
هذا الحدث المبارك السعيد يذكرنا بقيمة الالتزام والمحبة والتفاني في خدمة الآخرين، وكيف يمكن لشخصية واحدة مليئة بالبهجة والمحبة أن تترك أثرًا عميقًا في المجتمع.
القس ميرون صابر يسي (أرسانيوس صابر)
أما أرسانيوس صابر، الذي سيم كاهنًا باسم القس ميرون صابر، فهو نجل أستاذي الراحل، الأستاذ صابر يسي، مدرس العلوم الأشهر في مدرستنا. كان الأستاذ صابر مثالًا للمعلم المخلص والمحب لطلابه، وكان له مكانة خاصة في قلوبنا جميعًا. رغم أن أرسانيوس يصغرني بعام، إلا أننا كنا نحترم والده جدًا ونقدر جهوده الكبيرة في تعليمنا وتوجيهنا.
أتذكر موقفًا لا يمكن نسيانه، حينما أصر الأستاذ صابر على دفع قيمة حضور ثلاثة طلاب أيتام للمجموعة الدراسية التي بلغت وقتها اثني عشر جنيهًا عام 1990، بعد أن أثرت إدارة المدرسة على طردهم لعدم دفعهم المصروفات. أصر الأستاذ صابر على حضورهم فدفع المبلغ المطلوب من جيبه الخاص، واستمر الأمر حتى نهاية العام الدراسي، مما أظهر لنا جميعًا معاني العطاء والإخلاص.
رحلة أرسانيوس في خدمة الثقافة
أرسانيوس كان شابًا يعمل بعقد في قصور الثقافة، وأذكر أنه كان في قصر ثقافة النخيلة، ذلك القصر الذي بني بعد القضاء على أسطورة علي حنفي، واستمر في تقديم رسالة ثقافية وتنويرية في قرية كانت محرومة من العديد من الخدمات، وسيطر عليها السلاح والمخدرات. بفضل جهوده وإصراره، تحولت هذه القرية إلى مكان به أنشطة ثقافية ساهمت في رفع الوعي والمعرفة.
استمرارية الخدمة والإخلاص
لم يكن أرسانيوس مجرد موظف في قصر الثقافة، بل كان شخصًا يحمل رسالة سامية، يسعى من خلالها لنشر المعرفة والتنوير بين الناس. ظل يقدم رسالته الثقافية بلا كلل، مؤمنًا بأهمية دوره في تحسين حياة الناس من حوله. كانت خدماته الثقافية تلامس حياة الجميع، من الأطفال إلى الكبار، وكان له دور كبير في إحياء الروح الثقافية في البلدة.
على نفس السياق، ظل أرسانيوس يخدم في كنيسته واجتماعاتها بجد وإخلاص. كان مثالًا للشاب الملتزم والمتفاني في خدمة الكنيسة والمجتمع. لم يتوانَ عن المشاركة في كل الأنشطة والاجتماعات، وكان له بصمة واضحة في كل ما قام به. لقد كان حضوره دائمًا مؤثرًا وإيجابيًا، مما جعله محبوبًا لدى الجميع.
لحظة الفخر والاعتزاز
اليوم أثناء رسامته ككاهن باسم القس ميرون صابر، كان يومًا مليئًا بالفخر والاعتزاز. ورؤية أرسانيوس، الذي عرفناه كشابًا مخلصًا ومتفانيًا، يتم اختياره لهذا الدور الروحي العظيم، تعطينا شعورًا بالسعادة. هذا الاختيار يعكس الثقة الكبيرة التي وضعتها الكنيسة فيه، ويؤكد استحقاقه لهذا الشرف الكبير.
تربّى أرسانيوس في وسط عائلة كريمة لم تكن أقل حبًا للكنيسة منه. اعرف والده ووالدته وأخوته وأسرته جيدًا، فجميعهم كانوا محبين للكنيسة وملتزمين بها. كانت العائلة كلها مثالًا للتفاني والإخلاص في الخدمة، حيث كانوا دائمًا متواجدين في المناسبات الاجتماعية والكنسية، يشاركون ويخدمون في كل الأنشطة.
هذه الأسرة المحبة والمتفانية كانت بلا شك عاملًا مهمًا في تشكيل شخصية أرسانيوس ودعمه في مسيرته الروحية.
عظمة الكنيسة
سعادتي وفخري لهذين الصديقين ينبعان من عظمة الكنيسة التي تختار شبابها العظماء لخدمة الشعب. الكنيسة والأنبا اسحاق لا يختار إلا من يري فيهم القدرة على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة، والذين يتمتعون بالحكمة والمحبة والإخلاص في خدمة الآخرين.
الف مبروك لإيبارشية طما وللأسقف المستنير الأنبا إسحق، ومبروك لشعب قريتنا اختيار اثنين من شبابه في أعلى منصب روحي علماني.