الفن ينبع من الإنسان، وها هو الإنسان البسيط في قرية صغيرة من صعيد مصر يحقق أمجادًا في مهرجان سينمائي عالمي عجزت عن تحقيقه مؤسسات تنفق المليارات لأن الفن الحقيقي في النهاية هو الذي يؤثر ويبقى. أعرف بنات البرشا من زمان، وأعرف تريزا التي أنشأت أول فرقة مسرح عام ٢٠٠٤، وأعرف أختها الصغرى يوستينا، التي حملت المسرح على كتفيها، وطورت الفرقة بعد سفر تريزا للعمل في القاهرة، ثم الهجرة لأمريكا. الفيلم المصري لبنات البرشا «رفعت عيني للسما» فاز بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي في الدورة ٧٧ لعام ٢٠٢٤. ويدور الفيلم حول تمنيات وأحلام فتيات في قرية صعيدية مصرية. وهو من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، وبطولة فريق مسرح بانوراما برشا: ماجدة مسعود وهايدي سامح ومونيكا يوسف ويوستينا سمير ومريم نصار وليديا هارون. وقالت لي يوستينا سمير، رئيسة الفرقة، فور عودتها من فرنسا، إن مدة عرض الفيلم ساعة و٤٥ دقيقة، وقد عُرض مرتين في نفس اليوم، العرض الأول للنقاد، وحضر هذا العرض بجدعنة نجيب ساويرس وحسين فهمي، وقاما بالسلام على الفرقة والمخرجين، وكان الموقف مؤثرًا جدًا.
تدور أحداث الفيلم عن مجموعة من البنات اللاتي قررن أن يؤسسن فرقة مسرحية ويعرضن مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي في شوارع قريتهن البرشا في محافظة المنيا مركز ملوي حتى يسلطن الضوء على قضايا مثل الزواج المبكر وتعليم البنات والعنف الأسري ويتكلمن عن أحلامهن البسيطة. واستمر المخرجان المبدعان ندى رياض وأيمن الأمير على مدار ٤ سنوات في توثيق رحلة البنات، واكتشاف مشاعرهن ونمط حياتهن وأحلامهن.
مهرجان كان بدأ عام ١٩٤٦، واشتركت فيه مصر بعدد كبير من الأفلام اعتبارًا من ١٩٥٢، وفاز الفنان يوسف شاهين بجائزة «السعفة الذهبية» عن مجمل أعماله عام ١٩٩٧، وفاز بمسابقة الأفلام القصيرة عام ٢٠٢٠ المخرج سامح علاء عن فيلمه «أخاف أن أنسى وجهك»، وفي عام ٢٠٢١ فاز عمر الزهيري عن فيلم «ريش» في جائزة أسبوع النقاد.
وقد بدأ نشاط الفرقة عام ٢٠٠٤، وبعد ثورة ٢٥ يناير بدأت تقدم عروضها في شوارع البرشا، وسجلت الفرقة رسميًا عام ٢٠١٤. وفي عام ٢٠١٦ قدمت أعمالها في مهرجان مسرحي في تونس بعرض اسمه «الفرح»، وكان يناقش مشكلة الزواج المبكر للفتيات. وبعد العودة استمرت العروض في الشارع، وتجاهلها الناس، وتعرضت الفرقة في البداية للاستهزاء من المارة في الشارع. وبدأ شادي خليل، وهو شخصية محبوبة، في تدريبهن على التمثيل. وفي هذه الفترة انتقلت تريزا للعمل كصحفية في القاهرة، وتولت يوستينا سمير مسؤولية الفرقة. كان شباب القرية من الذكور يرفضون الاشتراك في المسرحيات، وكانوا يستهزئون بها.
بدأت ترتيب جلسات وورش كتابة، وكانت يوستينا تكتب نصًا مسرحيًا بسيطًا، وبعد ذلك تمت الاستعانة بمدربين متطوعين. وبعد ٣ سنوات، بدأت العروض في حوالي ٥ قرى مجاورة. تقول تريزا: «نحن كعائلة ٧ أبناء، ٤ بنات وثلاثة أولاد، أمي كانت تقول: (البنت بميت راجل)، الأطفال الذين كانوا معنا كبروا وكبرت معهم الأفكار، وغيروا مفاهيم القرية، والمسلمون كانوا يحضرون، ومغنية المسرح كانت فتاة مسلمة، من ذوي الإعاقة. شكرًا لأبي الذي أعطانا دورًا كاملًا في البيت لإقامة المسرح، والبيت يفتح على شارعين، شارع مسيحيين وشارع مسلمين، وكانوا يدخلون ويحضرون العرض من الناحيتين».
في عام ٢٠١٦ تلقت الفرقة أول دعم على شكل منحة من السفارة الهولندية. وبعد أن كبرت الفرقة عرضت ١٠ مسرحيات بالبنات في مطرانية ملوي. كانت الممثلات تلميذات في الابتدائي والإعدادي والثانوي وخريجات، وكانت تشترك معهن فلاحات أميات. وكانت المسرحيات اجتماعية، وبعضها دينية عن حياة أحد القديسين، وكانت تريزا تُخرج، ويوستينا تقوم بدور البطولة.
عام ٢٠١١ تأسست جمعية مصر للتنمية، وبدأت الحرب على الفرقة لأنهن بنات صعيديات يقمن بكل هذا، فقامت يوستينا بتأسيس فرقة بانوراما البرشا عام ٢٠١٤. وكانت المهمة الأساسية قضايا المرأة ومشاكل القرية بصفة عامة، وكان أول عرض مسرحي بعنوان «محاكمة القرية»، وهي مسرحية تنتقد كل ما يعتبره البنات سلبيات في القرية مثل الختان والزواج المبكر والضرب من جانب الأب والأخ ولاحقًا الزوج للبنت، واعتبار أنه ليس لها رأي، ويجب ألا تُكمل تعليمها، وأن مستقبلها هو الزواج، وأن الفلكلور والمسرح أمور سيئة. وكن يطالبن بالحرية بغناء أغنية «سيبوا الهوا لصحابه».
ودُعيت الفرقة إلى المشاركة في مهرجان صفاقس بتونس بمسرحية الفرح، وكانت الممثلة صغيرة جدًا، في يوم زواجها تلعب على المسرح بالعروسة. واهتمت الفرقة بأغاني الفلكلور الشعبي التي يتم غناؤها في الأفراح والمناسبات. وكانت بعض الأغاني لها صبغة تاريخية تحكي عن حقائق التاريخ وقضايا المجتمع مثل أغنية كانت تُقال لمعايرة البنت التي تتأخر في الزواج:
عمتي يا عمتي/ ما تبَيّضيلي الحلة
كل البنات اتجوزت/ وأنا قاعدة ألِمّ الجلة
سألت تريزا هل القرية كلها مسيحية فقالت: لا، ٥٠٪ مسلمون، وهم يحضرون المسرح معنا ويغنون.
ترشحت تريزا على قائمة الحزب المصري الديمقراطي للبرلمان عام ٢٠١١، وكنت في ذلك الوقت رئيس الحزب، وشجعتها، ودعمناها، وقالت لي تريزا، في اتصال من نيوجيرسي، أمس: «أهل البرشا شجعوني، رغم أنني كنت بنتًا صغيرة، وكانت بداية كسر العادات والأفكار».
المخرجة تقول إنها شاهدت بانوراما البرشا في قرية أخرى، وأخذوا قلبها وعقلها، والبنات كن قريبات جدًا من المخرجة، والبنات يقلن: لم نكن نعرف أن المسرح سوف يغير المجتمع، وقد صورن ٤٠٠ ساعة، ويشكرن المونتير لأن عمله كان صعبًا.
وتقول يوستينا: «مسرحنا ليست به إمكانيات، ولا توجد أماكن فنية في الصعيد. مفيش مسرح ولا سينما، والبنات كان نفسهم الفيلم ياخد جايزة، وكل بنت لها مشاكلها الخاصة».
تهنئة كبيرة لمخرجي الفيلم، وكلنا يعلم صعوبة الإخراج خارج البلاتوه، أي في الشارع والحارة والقرية التي تقبع في الصعيد. مبروك عليكما الجائزة، «وعقبال الجوائز القادمة»، وألف مبروك لبانوراما البرشا، وتحية كبيرة لصديقتيَّ تريزا ويوستينا سمير، اللتين أسستا الفرقة وقادتاها عبر سنوات طوال في وسط صعوبات جمة.
قوم يا مصري.. مصر دايمًا بتناديك
بقلم محمد أبو الغار