اتصل بي أول أمس من رقم ظهر على شاشة التليفون بدون اسم، ولا أعرف حتى الآن ما الذي دفعني للرد، وعندما سمعت الصوت الرخيم واللغة السلسة، عاد بي الزمن في لحظة، إلى ما يقرب من خمسين عاماً.
فقد كان هذا الصوت هو الذي أنتظره كل فترة لساعتين على الأقل، تمران كالدهر، أعرف نبراته جيداً وطريقة إلقائه، وأحفظ كلماته وعباراته.
كنت أنتظر صوته في الساعة السابعة وخمس دقائق مساءً، بعد موجز الأنباء على شبكة البرنامج العام بالإذاعة المصرية، في التعليق على مباريات دوري كرة القدم، خصوصاً عندما كان الزمالك يلعب خارج القاهرة، وكانت الدقائق في شبابنا بعد سماع تعليقه، إما باسمة وإما حزينة، آراؤه ووجهات نظره نأخذ منها ونتحدث، ونستشهد بها ونصدر أحكاماً، فهو بلا شك أحد أهم أسباب زيادة شعبية لعبة كرة القدم في مصر.
إلا أننا ما زلنا حتى الآن، نسمع كلمات قليلة بصوته المميز من حين لآخر، دون أن يعرف أغلبنا أنه هو. ففي الفيلم الجميل “شارع الحب” الذي أُنتِجَ عام 1958، عندما تأخر المايسترو عن عبد الحليم حافظ “منعم” في دار الأوبرا، وأصاب القلق حسين رياض “عم جاديليو” وهو يستمع إلى الراديو على المقهى في شارع “محمد علي”، جاء الصوت الذي تميزه من بين أصوات عديدة، وهو يقول “ما زلنا في انتظار وصول المايسترو ‘عزيز رأفت’ لقيادة الأوركسترا، ونستمع الآن إلى موسيقى شاطئ الأحلام”.
إنه أحد أعمدة الإذاعة المصرية، وأحد أجمل أصواتها، وتدرج في المناصب حتى أصبح رئيساً لها، ولا يتسع المجال هنا لذكر كل مناصبه وإسهاماته في الشأن الإعلامي والرياضي المصري المعاصر، فهو شيخ وأستاذ الإعلاميين، والنائب البرلماني المحنك، والخال، وأحد من يشار إليهم بالبنان في مجاله، وجمعته صداقة وفيّة مع والدي المرحوم محمود عبد العزيز مدير تحرير جريدة الأهرام.
تصوروا هو – وهو من هو – من يقول لي “حبّيت أسمع صوتك وأقول لك كل سنة وإنت طيب وأطمئن عليك”!
والله، لم أكن أتخيل أن يأتي هذا اليوم الذي يتصل هو بي، ولا أعرف الرقم. تقبل اعتذاري وأسفي يا أفندم، فنحن في زمن عجيب أحسبه قريباً من قيام الساعة.
هو، وبدون أي ألقاب تسبق الاسم، فاسمه فقط يكفي، إنه “فهمي عمر”، حفظه الله، صاحب أشهر عبارة رياضية إذاعية؛ “مع التمنيات الطيبة للكرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
*نشر في أول أغسطس 2020، وأعيد نشره اليوم بمناسبة مرور 90 عاماً على افتتاح الإذاعة المصرية في 31 مايو 1934.