“زي النهارده من كام سنه مفيش لزوم للعد والحسبنه/ اصل الحكايه عد عمرك يا جحا/ قال يوم مفلس وخمسه سته عكننه .. فلس … فلس … فلس يحيا الفلس والجدعنه”.. (من قصيدة آخر الصعاليك المحترمين أحمد فؤاد نجم الشهير ب “الفاجومي” عن يوم مولده) .
كان اليوم( 22 مايو عام 1929 )، وكانت قرية” نجم ” بمحافظة الشرقية على موعد مع ذلك الطفل “المعجون بماء عفاريت” ليس لشقاوته فقط، بل لأن مجيئه إلى الحياة شهد أيضاً عدداً كبيراً من الكوراث العائلية، تعددها له أمه كلما ضاقت بشيطنته، فتلعن “اليوم الأسود” الذى ولد فيه .
فى الصباح جاءها الخبر بأن أباه يريد أن يتزوج عليها وفى الظهر مات زوج أختها العروس الشابه، وفى الأصيل انفجر موقد الجاز فى وجه جارتها الحسناء الشابه ولقيت مصرعها فى لحظات يا كبدى..!
فى المساء كانت آلام الوضع الرهيبة فوق كل احتمال، لأن المولود العفريت أبى أن يخرج إلى الحياة برأسه وأصر على النزول بقدميه وعجزت الدايه عن سحبه فنقلوا الأم الى المستشفى وهى بين الحياة والموت، وهناك تبين أنها حامل فى توأم. أخرجوا الولد الشقى، ثم أخرجوا بعده توأمه، وكانت طفله غاية فى الجمال، لكنها خرجت إلى الحياه ميته “وتلاقيك انت اللى قتلتها جوه يا مجرم .. )
هكذا يحكي أبو النجوم عن ولادته !بهذا الاتهام تختم الأم فى كل مره سردها لأحداث “اليوم الأسود” الذى شهد خروج هذا الطفل المشاغب الى الحياة. ومثلما رفض الشقي النزول الى الحياة بطريقة طبيعية وفضل أن ينزل إليها ماشياً فقد عاش عمره كله ماشيا فى بلاد الله خلق الله يلاطم الحياة وتلاطمه ويأبى أن يلتزم بقوانينها يفعل ما يحلو له حين يحلو له مهما كانت العواقب.
كانت الأم فلاحه مصرية جميلة، أميه لاتقرأ ولا تكتب لكنها موهوبة بالفطرة، تجيد الكلام ورواية الأحاديث والنوادر والأمثال، وتصوير الشخصيات تصويراً لاذعاً وصادقاً يبعث الضحكة من الأعماق وحين يغلبها الشجن تغنى بصوت جميل مواويل حزينة.
تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة الوسيم المتعاجب، صاحب العلاقات النسائية العديدة، فعايشت الخوف من أن يتهدم عشها فوضعت “13 بطنا، منها 4 مِجوز” –توأم- وكان شاعرنا عضواً فى “المجوز الرابع والأخير” نزل الى الدنيا متهماً بارتكاب جريمة قتل داخل رحم أمه! أما السبعة عشر مواطن الذين أنجبتهم فقد بقى منهم على قيد الحياة ( في حياة نجم ) خمسة فقط، وسادس لم يره وإنما سمع انه مفقود من الأسرة منذ سنوات.
رحل والده وهو فى السادسة من عمره، فانتقل للعيش ببيت خاله بالزقازيق وتلقي تعليمه في الكتّاب مثل عامة المصريين، ثم وضع في ملجأ أيتام، وهناك كان أول لقاء له مع العندليب “عبد الحليم حافظ.” ثم ترك الملجأ في سن السابعة عشر وعاد إلى قريته قبل أن ينتقل للقاهرة للعيش مع شقيقه قبل أن يرسله للقرية مرة أخرى.عمل نجم في معسكرات الإنجليز متنقلا بين مهن كثيرة، وفي “فايد” وهي إحدى مدن القنال التي كان يحتلها الإنجليز التقى بعمال المطابع الشيوعيين و كان في ذلك الحين قد علم نفسه القراءة والكتابة، واشترك مع الآلاف في المظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.
خرج الشاعر مع 90 ألف عامل مصري من المعسكرات الإنجليزية بعد أن قاطعوا العمل فيها على إثر إلغاء معاهدة 1936 وكان يعمل بائعا حينئذ فعرض عليه قائد المعسكر أن يبقى وإلا فلن يحصل على بضائعه، ولكنه تركها وذهب.
عمل في وزارة الشؤون الاجتماعية طوافا يوزع البريد على العزب والكفور والقرى وكان يعيد في هذه المرحلة اكتشاف الواقع بعد أن تعمقت رؤيته وتجربته. شعر حينئذ رغم أنه فلاح وعمل بالفأس لمدة 8 سنوات أن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل. كان يجد في الواقع المصري مرادفات حرفية لما تعلمه نظريا، كان التناقض الطبقي بشعا.
في سنة 1959 شهد الصدام الضاري بين السلطة واليسار في مصر على اثر أحداث العراق وانتقل من البريد إلى النقل الميكانيكي في العباسية أحد الأحياء القديمة في القاهرة. يقول “في يوم لا يغيب عن ذاكرتي أخذوني مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس وهناك ضربنا بقسوة حتى مات أحد العمال وما زالت آثار الضرب واضحة على جسدى”.
عمل في ورش السكك الحديدية، واتهم في عملية نقل معدات من الورش شهدت عمليات نهب واسعة، بالتزوير، وسجن لمدة 3 سنوات بتهمة التزوير في أوراق رسمية، ولكن للمفارقة اكتشف قدرته علي الكتابة في السجن حين شارك في مسابقة نظمها المجلس الأعلي للفنون والآداب، وفاز بالجائزة الأولي وصدر له ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن”، الذي كتبت له المقدمة د. سهير القلماوي، ليشتهر وهو في السجن.
يقول نجم “كانت أهم قراءاتي في ذلك التاريخ هي رواية الأم لمكسيم جوركي، وهي مرتبطة في ذهني ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم، والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته. ولم أكن قد كتبت شعرا حقيقيا حتى ذلك الحين وانما كانت أغانى عاطفية تدور في اطار الهجر والبعد ومشكلات الحب التي لم تنته حتى الآن… وكنت في ذلك الحين أحب ابنة عمتي وأتمناها، لكن الوضع الطبقي حال دون اتمام الزواج لأنهم أغنياء″.
بعد خروجه من السجن تم تعيينه موظفا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية وأقام في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور.( 2)”الفاجومي مات، أخر خبر فى الراديوهات، وفى الكنايس، والجوامع، وفى الحواري، والشوارع، وع القهاوي وع البارات، الفاجومي مات، واتمد حبل الدردشه، والتعليقات، مات المناضل المثال، يا ميت خسارة على الرجال”..”يا خسارة.. يا خسارة” ظل الرجل يردد كلماته باكيا، وهو يسير في الجنازة التي شيعها المصريون (ظهر الثلاثاء 3 ديسمبر 2013)، شاهدته يومها، الرجل يغالب دموعه ويجري ناحية النعش يلمسه ويضعه فوق إحدى كتفيه، دون أن يكف عن ترديد الكلمة الوحيدة التي عبر بها عن رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم، “يا خسارة”، كل يوم تودعي حد من عيالك المخلصين يا مصر.حزن ذلك المصري المفجوع برحيل الفاجومي لا يقل عن حزن باقي المصريين الذين حولوا مواقع التواصل الاجتماعي (يومها) إلى سرادق عزاء في وداع “نجم” .
“أنا فلاح مصرى، ومواطن عربى منتهك الأرض والعرض مكبل ومطارد.. أنا حفيد الفلاح الفصيح.. فلاح مصرى فاهم كل حاجة ولا أستطيع أن أبلع لسانى”..إنه “آخر الصعاليك المحترمين”، “شاعر تكدير الأمن العام” أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العامية علي الإطلاق في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي مثل أحد أهم الظواهر الشعرية السياسية المصرية، وأحد أبرز اليساريين المناضلين الذين دفعوا أثمانًا من أعمارهم خلف القضبان من أجل التعبير عن الروح النضالية لهذا البلد، مازجًا هموم الطبقة العاملة بالسخرية والحقيقة المرة للقهر.
لم ينفصل نجم يوما، الذي عرف بلقب “الفاجومي” -كلمة عامية مصرية تصف الشخص الذي يعتمد النقد اللاذع وسيلة للتعبير- عن هموم الشعب المصري .كانت آخر كلمات نجم التي ألقاها عقب إحياء أمسية شعرية بالعاصمة الأردنية ” عمان” ، إنه يرى ما حدث في 30 يونيو موجه ثالثة للثورة، وأن مصر “مامتتش” .وبالرغم من سنوات عمره التى عمرت 84 عاما، إلا أن نجم كما قال في إحدى مقابلاته “ليكتب كابن 25 عام ويشرب كابن 25 عام، ويسعد إمرأة كابن 25 أيضًا”..!