يحتفل المواطنون المسيحيون حاليًا بفترة الخمسين يومًا المقدسة، التى تلى عيد القيامة المجيد، ويتذكر القراء دعوة بعض المتشددين والمتطرفين لعدم جواز التهنئة بهذا العيد، وهى للأسف دعوة متكررة!! رغم أنها مناسبة اجتماعية تزيد الود بين الناس. ويبدو أننا نحتاج إلى قراءة التاريخ قراءة واعية، تكون مُلهمة للحاضر وأرضية انطلاق للمستقبل، ففى التاريخ دروس وعبر، وبه يتحقق التواصل بين الأجيال، ويزداد الانتماء للوطن، وتترسخ قيم التسامح والوحدة والعيش المشترك وغيرها من قيم إيجابية بين المواطنين بعضهم بعضًا.
وفى التاريخ مواقف وأفكار تستحق الرواية ونقلها من جيل إلى جيل. أذكر مثلًا ثورة سنة 1919م، والتى كانت نموذجًا فى الوحدة الوطنية بين المصريين بالمعنى الواسع والشامل، من حيث وحدة المسلمين والأقباط، الرجل والمرأة، الأغنياء والبسطاء، الطلاب والأفندية والموظفين والعمال والفلاحين، من القاهرة والأقاليم.
وعندما حل عيد القيامة المجيد فى إبريل 1919م، نقلت الصحف تهنئة المسلمين للمسيحيين، حيث قالت جريدة (الأهرام): «تيار طبيعى شديد يسير بهذه الأمة إلى الموقف الطبيعى الصحيح المتين الذى يجعل جسم الأمة سليمًا وشتاتها مجتمعًا وبنيانها مرصوصًا. تيار حكمت به العقول بعد حكم الطبيعة. وأيدت هذا الحكم المصلحة والمنفعة. وأملته أرض مصر وماؤها وابتهجت به أرجاؤها وسماؤها. ذلك تيار الإخاء والوئام بل الاتحاد والتضام.
أرسل العقلاء دعوته فى هذا الوادى فلم تلق هذه الدعوة إلا آذانًا تصغى وقلوبًا تعى وأيادى تعمل. ودعوة التقطتها الصحف الحرة المخلصة من أفواه الخاصة والعامة والشيوخ والشبان والسيدات والأوانس وأذاعتها ونشرتها فقابلها الفلاح بالارتياح والعامل بالبهجة والحبور وتغنى بها الشعراء ورتل الكل أناشيدها. حتى إذا ما حل أمس وهو عيد النصارى جميعًا على اختلاف المذاهب والعناصر والأجناس توافد إخوانهم المسلمون على الأديرة والكنائس وعلى المعابد والمساجد ليشاركوهم عيدهم وليجعلوا عيد كل فئة وطائفة من الأمة عيد الأمة كلها» (ما أجمل أمس لمن رآه وما أكبره فى تاريخ مصر الجديدة، 21 إبريل 1919م!).
وتحت عنوان «أكبر مظاهر التآخى تُعلن فى أكبر عيد» (22 إبريل 1919م)، قالت جريدة (مصر) إن «التآخى بين المسلمين والأقباط قديم العهد جدًا يرجع إلى تاريخ زواج النبى محمد العظيم (صلى الله عليه وسلم) من سيدتنا مارية القبطية وولادة سيدنا إبراهيم منها إلى عهد هاجر القبطية أم إسماعيل أبى العرب كلهم، وعقلاء الشعبين يحترمون هذا الإخاء ويقدسونه وينادون به فى ظروف كثيرة ولو جهله الذين لا يفقهون»، وأضافت «إن هذا التآخى الذى قضت الظروف الحاضرة بتجديد إعلانه ليس ابن هذه الفرصة ولا هى التى أنشأته ونقول الآن إنها هى التى أوجبت المجاهرة به فقط للدواعى التى لا تخفى على اللبيب العارف بتصاريف الأقدار»، حيث «قصد الدار البطريركية صبيحة العيد الأكبر فى فترات متوالية نحو عشرة آلاف نفس من أرقى طبقات الأمة الإسلامية الكريمة وكلهم لا يقصد إلا تثبيت هذا العهد المؤيد من الأربعة عشر مليونًا يستوطنون وادى النيل فكان عملهم هذا المؤيد بمشيئة الله وحسن النية نحو الوطن المحبوب أكبر مظهر أخوى جميل».
ونقلت جريدة (الأخبار) زيارة كبار علماء الأزهر وأعيان المصريين المسلمين للكنائس المسيحية ودور البطريكخانات، حيث «بدأت هذه الزيارات ليلة العيد فازدحمت الكنائس القبطية بالزائرين من المسلمين، وكان فى نية بعضهم إلقاء الخطب والقصائد ولكنهم أجلوها إلى يوم العيد» (فى الكنائس والبطريكخانات، 23 إبريل 1919م).
وعندما حل شهر رمضان المبارك فى شهر يونيو 1919م، نقلت صحيفة (الأخبار) تهنئة المواطنين الأقباط لإخوانهم المسلمين بهذه المناسبة، حيث «قصد وفود من الأقباط فى العاصمة والثغور وبنادر الأقاليم الجوامع الإسلامية لتهنئة إخوانهم المسلمين بحلول شهر الصوم»، و«كان أكبر هذه الوفود وفد الشبيبة القبطية فى الأزهر، فقد ساروا فى موكب مؤلف من نحو 50 عربة إلى الأزهر الشريف فاستقبلهم على باب الرواق العباسى جماعة من كبار العلماء وأذكياء الطلبة.
وافتتح الحفلة حضرة العالم الفاضل الشيخ الزنكلونى، فشكر الحاضرين ومما قاله: «إن أفضل ليلة من ليالى شهر رمضان هى ليلة القدر ونحن نرى ليلتنا الحاضرة هى الليلة الفضلى الثانية لتشريف إخواننا الأقباط هذا النادى»، وحسب الجريدة فقد «عقبه الشيخ محمود الغمراوى فالقمص تكلا فالأستاذ عز العرب أفندى المحامى ثم حضرة الفاضل توفيق أفندى عزوز وفرح أفندى جرجس. وكانت هذه الخطب تدور حول اتفاق العنصرين وتضامنهما فى القيام بالواجب عليهما فى خدمة البلاد» (بين الأقباط والمسلمين، 3 يونيو 1919م).