«سيبوا الهوى لصحابه ياللى متقلدين، إحنا حَبِّةْ صبايا واللى يعادينا مين، اللى يعادى صبايا شقى وعمره قصير، يا وابور ياللى انت مقبل يا مروح على الصعيد، سلم على الحبايب، حتى تراب الطريق»، هذه الكلمات الموروثة فى الغناء الشعبى الصعيدى، تحتفظ ذاكرة محبى الفن المصرى بأصواتٍ مُتعَددة أدَتْها ورُبما أشهرهم المطرب أبو رسلان والريس حنفى أحمد حسن، وبالطبع لَمْ يسبق – على الأقل حسب مُتابعتي – أن تمّ تصوير هذه الأغنية حتى كان أن قَرَر اثنان مِن الفنانين الشباب هُما المخرجان (ندى رياض – أيمن الأمير) تحويل هذا المقطع منْ الفلكلور المصرى إلى مقطع غنائى مُصوَّر، عبر توزيع ورؤية موسيقية لمُوزع شاب اسم شُهرتُه (مولوتوف)، فيما تولى الغناء فنانه شابة هى (مونيكا يوسف) ومعها فرقة (بانوراما برشا) وبرشا هى قرية مِن قُرى مركز ملوى التابع لمُحافَظة المنيا، وهكذا استوتْ الأغنية على عودها مُنْتَجًا فنيًا سويا صورَتُه تتحرك عبر مشهد مُتكَرِر لست صبيات يركُضن فى صفٍ واحد مُنتصف حقل مُمْتَد، يركُضن نحو أفق يرونَه ولا نراه، ومن هذه النقطة يُمكننا الانطلاق نحو ما يرونَه مِن آفاقٍ للرؤية والرؤى تتجاوز كُل قصور النظر وإنهاكِه وإرباكِه وتشتيته، مُرتَكِزة إلى دافِعات انطلاق ذاتية تستحضر مخزون الإبداع فى الشخصية المصرية وملكات التشكيل فى موادِه الخام، مُستَحْدِثة من أدوات الاستبصار ما يُثبِت كفاءتها على التحليق نحو أفقها القادم.
لم تكن الأغنية إلا مُجرد دعاية تشويقية لعمل فنى تُخَمَر فِكرَتُه وتُعجن وتُخبز فى القرية المنياوية برشا، وتمت هذه العملية خلال أكثر مِن أربع سنوات كانت مُدة تصوير العمل، حتى إذا ما استوى على عوده غدا فيلمًا تسجيليًا يحمل عنوان «رفعت عينى للسما»، يحمل فى تفاصيله توثيقًا لتجربة مجموعة مِن الفتيات اللواتى يُقررن تأسيس فرقة مسرحية، تُقدِم مُنطَلِقة من التراث الشعبى الصعيدى المصرى عرُوضًا لمسرح الشارع فى قرية «البرشا» وتُعلِج هذه العروض قضايا يراها فنانات الفرقة الشابات بحاجة إلى تفاعل إيجابى لمواجهة مخاطرها مثل (الزواج المبكر – العنف الأسرى – تعليم الفتيات)، لتسير الفرقة المسرحية مُخاطِبة وعى أهالى القرية حاملةً شمعة ضيٍ و(أحلام توفق حد السماء) حسبما وصف بيان صُناع الفيلم.
وبعيدًا عن قرية البرشا ومحافظة المنيا، وبينما واقعنا عالِقٌ فى شِراك المُتاجرين بالأتراح قبل الأفراح قُبحًا يقتَحِم المسامِع ويجتاح العيون ويخنق العقول عبر ضجيج يدعى الطرَب، وافتعال يدعى صُناعُه أنَّهُ مسرح، إذ بفِرقَة بانوراما البرشا تقفِز على كل عجزِ مفروض وتشوِهات رائجة وادعاءاتٍ فنية مُتقعِرة، لتقفز بفيلمها التسجيلى المصرى «رفعت عينى للسما» مُحتَلَة مِنصة التتويج فى الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كان السينمائى الدولى حاصدَةً ولأوَّل مرة فى تاريخ السينما المصرية التسجيلية جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلى، وليصطف فريق العمل الفنى المصرى (ماجدة مسعود – هايدى سامح – مونيكا يوسف – مارينا سمير – مريم نصار – ليديا هارون – يوستينا سمير) ومعهم مخرجاه ندى رياض وأيمن الأمير أمام عدسات العالم كُله هاتفين بلسان الحال الفنى «هذه مصر»، حيث بهية لا تعدم مِن بنوها مَنْ يوقن أن قُدراتها تُحَفَز بالجمال وأن عللها يداويها الفن وأن أزماتها تهون حين يكون الإبداع لوعيها درِعًا ولأملها راعٍ وعلى صُبحها أذان، وعِندما يُدرِك بنوها هذا اليقين يكونون قد امتلكوا مِن الأسباب كل ما يلزم الاستنفار للمسير صوب كُل مدى، مُتجاوزين كُل مَن قصُر نَظرَه على فنون (السبوبة)، وعلى إبداع يسميه أصحابُه (نحتايه)، وتحصنوا بحصن الوعى الفنى اللازِم لُمواجهة تحديدات الكُره والتطرف والتعصف والإرهاب، وعِندها تتعدى أبصارنا الحواجز وصولًا إلى آفاق السماء لا تُعيقها قُدرَة ولا تكسرها معاول الهدم ولا تحبسها للتردى غيوم لينطلق إبصار واستبصار الوعى المصرى هاتفًا (رفعّتْ عِينى للسما فجأة التقيتنا نجوم – وبنات ذوات إنما الضى ليها هدوم – والفَنّ بيهم سما عن كل ما لُه لزوم- يا بهية: فَنِك كما .. سارى يِشُق غيوم).