عشرون عدوانا إسرائيليا شاملا فى الستة شهور الأخيرة وحدها على مخيم "جنين" الصغير، الذى لا تزيد مساحته مع جواره على كيلومتر مربع واحد ، ومع العدوان الأخير الأوسع الأشرس ، وبهدف اجتثاث أسطورة مقاومة "جنين" وبنيتها التحتية ، صمدت عاصمة الفداء الفلسطينى الحاضر ، واضطرت قوات النخبة فى جيش الاحتلال إلى الانسحاب مؤقتا ، بعد يومين من هدم المنازل وتجريف الشوارع وقتل المدنيين المسالمين ، والقصف بالطائرات والصواريخ والمدافع ، وودعت "جنين" شهداءها فى جنازة مهيبة ، ولكن من دون أن ينكسر حلم "جنين" ، ولا إلهامها العفى ، وصناعتها العبقرية لأبطال عظام ، يتناسلون جيلا فجيل ، منذ أن كانت "جنين" صخرة تكسر عندها هجوم عملية "السور الواقى" لصاحبها المجحوم "شارون" ، قبل أكثر من عشرين سنة ، وقتها ، كان فدائيو "كتيبة جنين" الحالية أجنة فى بطون أمهاتهم ، اللاتى شهدن تدمير جيش الاحتلال لبيوت المخيم الفقيربالكامل ، ولكن من دون أن تهزم روح المقاومة السارية وجيناتها ، فى مخيم يلخص أحزان المأساة الفلسطينية ، ويطل من موقعه الجغرافى الفريد على قلب الداخل الفلسطينى المحتل فى نكبة 1948 ، وينتسب بأرضه إلى شمال الضفة الغربية المحتلة فى عدوان 1967 ، ويجسد الهم الفلسطينى بكافة مراحله وكامل أوصافه ، ويلد من أصلاب الرجال والشهداء أطفالا موسومين بوشم المقاومة ، ما إن يذهب الواحد منهم إلى مصير الشهادة الجليلة ، حتى يصير مثالا يحتذى عند رفاقه ، ويجعل من "جنين" وجوارها ، صداعا لا يهدأ فى رأس كيان الاحتلال ، يذكره على الدوام بجرائمه وهمجيته ووحشيته ، وينذره بخطر المقاومة التى ولدت لتبقى ، وبأن "جنين" هى عنوان فلسطين الأسيرة بكاملها ، وبأن الآباء الذين قهروا "شارون" ، الذى كانوا يسمونه "ملك إسرائيل" ، ستظل قادرة على هزيمة وقهر خلفائه من المجرمين وأرباب السوابق فى حكومة "بنيامين نتنياهو" الراهنة ، وما يأتى بعدها ، وكما ذهب "شارون" إلى حتفه بعد غيبوبة دماغه لثمانى سنوات متصلة ، فلن يكون مصير "نتنياهو" والوزراء " يوآف جالانت" و" بتسلئيل سموتيريتش" و" ايتمار بن غفير" وغيرهم ، لن يكون أفضل من نهاية سيدهم ومعلمهم "إرييل شارون" رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق .
نعم ، ستظل “جنين” عاصمة للحلم الفلسطينى ، الذى يولد من رحم المأساة ودمارها ، ولن يكون العدوان العشرون عليها هو الأخير ، ربما لأن مساحتها الضيقة تتمدد فى الوجدان والقلوب ، وتسرى بعدوى المقاومة الأسطورية إلى جغرافيا فلسطين بكامل عذابها واتساعها ، فبرغم تغير ظروف الوضع الفلسطينى على مدى العشرين سنة الأخيرة ، وتدهور مؤشراته السياسية العامة ، وملاحقة السلطات الضارية لخلايا الفدائيين فى القدس والضفة الغربية بالذات ، برغم كل القيود والمهانات والتراجعات والانقسامات ، بدت “جنين” العنيدة كأنها تمضى فى الاتجاه المعاكس ، وكأنها قلعة المقاومة الصامدة المتجددة تلقائيا ، وبدا مقاوموها فى وحدة لا تهزها انقسامات السياسة ، وجمعوا فدائيى “حركة حماس” و”حركة الجهاد” و”حركة فتح” فى عروة وثقى لا تنفصم ، بدت حركة “الجهاد” وجناحها العسكرى “سرايا القدس” فى وضع المبادر بالسنوات الأخيرة ، وكونت النواة فيما يعرف باسم “كتيبة جنين” ، التى ضمت إليها عناصر مما كان يعرف باسم “كتائب شهداء الأقصى” الجناح العسكرى لحركة “فتح” ، ثم دخلت فى الصورة عناصر “كتائب القسام” الجناح العسكرى لحركة “حماس” ، وفى “جنين” لا يختلفون ولا يتمارون ، فالقضية مباشرة وظاهرة وساطعة ، وعند الكل قناعة واحدة ، أن جلاء الاحتلال لا يكون بغير الدماء ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وأن الإبداع الكفاحى المسلح هو سبيل التحدى ، وبدأوا على طريقة “غزة” التى تختلف أوضاعها الميدانية ، فى جمع السلاح وتطوير صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات والقذائف ، وإلى أن بلوروا ما كان يبدو مستحيل التصور ، وجعلوا تقليد كتائب المدن والجهات ينتشر وتتصاعد وتيرته ، بدءا بمدن شمال الضفة فى “نابلس” و”وطولكرم” وغيرها ، ثم فى مدن وقرى وسط الضفة الغربية وجنوبها ، وإلى أن تكاملت دوائر وبؤر مقاومة محلية فى أغلب الجهات ، ربما تنتظر خبرة التنظيمات الأقدم والأطول باعا ، ربما لإحكام طرق العمل والتنظيم السرى وبناء جيش المقاومة الجديد ، فى منطقة خطرة مكشوفة مراقبة كل لحظة من جيش الاحتلال ، ومن أدوات تجسسه واختراقاته البشرية والتكنولوجية ، وفى كل الضفة الغربية التى يطلق عليها العدو اسم “يهودا والسامرة” بحسب التاريخ التوراتى ، ويعتبرها قدس أقداسه ، وقلب مشروعه الاحتلالى الاستيطانى الإحلالى من حول القدس ، والمقاومة الفلسطينية المسلحة فيها وانطلاقا منها ، هى أخطر ما يفزع كيان الاحتلال غريزيا ، ويدفعه لمضاعفة عنصريته وعدوانيته وبطشه وحرقه للمدن والقرى وتنكيله بأصحاب الأرض ، عبر قوات جيش الاحتلال أو من قطعان المستوطنين وعصاباتهم الإرهابية الدموية المسعورة ، وبما يزيد فى المقابل من اشتعال جمرة المقاومة وتدافع حضور دواعيها الساخنة ، دفاعا عن حق الحياة فوق قداسة الأرض ، ويحفز سعى الجيل الفدائى الفلسطينى الجديد لتكثيف العمل المقاوم ، وفى بيئة شعبية حاضنة بأغلبها لنداء المقاومة المسلحة وجماعاتها التلقائية أو المنظمة ، بعد أن انتهت اتفاقات “أوسلو” وأخواتها إلى بوار نهائى ، وبعد أن سقطت كل رهانات التسوية الخادعة ، وبعد إغلاق سوق المفاوضات العبثية قبل عشر سنوات ، وبعد أن توارت كل الأقنعة المستعارة ، وأعلنها “نتنياهو” أخيرا بوضوح صارم ، وقال أن هدف حكومته وجيشه ومستوطنيه لم يعد يخفى ، فلا مكان عنده لما يسمى “حل الدولتين” ، ولا مناص ـ بحسب تصوره ـ من اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ، ومن ضم الضفة الغربية ـ مع القدس ـ بكاملها ، وأن مصير “السلطة الفسطينية” لا يعنى عنده شيئا كثيرا ولا قليلا ، ولا بأس أن تبقى فى حدود إدارة ذاتية محلية ، وهكذا هدم “نتنياهو” كل معابد “أوسلو” ووعودها ، وأشهر وفاتها بجرة قلم ، وقد لا يكون ذلك جديدا فى مضامينه ، لكن إعلان “نتنياهو” الوقح ، حرق مراكب المساومين جميعا ، ونزع ورقة التوت عن عورات الحكومات العربية المطبعة ، وكشف نفاقهم الرسمى اللزج ، وأحاديثهم الاستغفالية عن التفاوض كطريق لإقامة دول فلسطينية عاصمتها القدس المحتلة ، فلم تعد من معانى لهذه الكلمات المحنطة ، ولا من مصداقية لخرافة التعويل على الراعى الأمريكى ، الذى أعلن هو الآخر ـ بوضوح قاطع ـ تأييده للعدوان الإسرائيلى الأخير على “جنين” ، واتفاقه المسبق مع كيان الاحتلال على شن العدوان ، وبدعوى اجتثاث “إرهاب جنين” ، فيما اكتفت الحكومات وجامعتها (العربية) باستنكارات باهتة للعدوان ، وكأنه لم تصلها الرسالة الجهيرة السافرة لكيان الاحتلال ، الذى يزدرى وساطات حكومات التطبيع ، ويعتبر ما يفعله فى القدس والضفة وغزة شأنا داخليا خالصا له ، وليس لأحد حق التدخل فيه ، إلا بالخضوع والتسليم لكيان الاحتلال بما سرق ، ومن دون سلام ولا كلام عن “الشرعية الدولية” وقراراتها ، التى صدرت وتراكمت بالمئات ومن دون تنفيذ ، وتحولت إلى حبر جف فوق الورق ، فالحقائق على الأرض تصنعها القوة ، ونصرة الحق الفلسطينى لم يعد لها سوى سبيل وحيد ، هو المقاومة التى تنهك قوة الاحتلال ، والدم الذى يهزم السيف ، وهذا هو طريق “جنين” وأخواتها ، وكل تخلف عنه يعنى العكس بالضبط ، فكل تطبيع هو خدمة مباشرة لكيان الاحتلال ، وكل تعويل على تفاوض ذهب مع الريح ، وقد أعلنت “السلطة الفلسطينية” نفسها ، وقف كل اتصال أو “تنسيق أمنى” مع جيش وحكومة الاحتلال ، وهو ما نأمل أن يكون صحيحا ونهائيا هذه المرة ، وليس امتصاصا موقوتا لسخط وغضب شعبى ، فلا يكفى وقف التنسيق “الأمنى” ، حتى لو صدق الوعد واستمر ، ولا ترديد أوهام من نوع طلب “حماية دولية” للفلسطينيين ، يعرف من ينادون بها أنها مجرد “طق حنك” ، فلن يحمى الشعب الفلسطينى سوى طلائعه المقاومة ، ولن ينقذ الأمة من عارها سوى وقف تطبيع الحكومات فى الحد الأدنى ، ولن ينقذ الحلم الفلسطينى سوى التوحد على كلمة “جنين” واختيارها ، وما من قيمة كبيرة ولا صغيرة لانتخابات فلسطينية ، أو غيرها من عناوين تطرح عادة كشروح لانقسام سياسى فلسطينى ، وتقدم كأعذار وخلفيات لدوام الاحتراب السياسى بين حكومة غزة وحكومة رام الله ، ومفتاح الاتقاق الفلسطينى على كلمة سواء فيما نظن ، هو المقاومة وحدها ، وبكل السبل الشعبية والمسلحة ، والعودة إلى هدف تحرير فلسطين على مراحل ، وبعث كيان جديد جامع لمنظمة التحرير الفلسطينية ، يوحد جماعات الفداء الفلسطينى فى ساحاتها جميعا ، فلا تحرير ولا خلاص من الاحتلال بالكلمات والشعارات المتخشبة ، بل بتحدى وإنهاك قوة الاحتلال ، وإلى أن تزيد تكلفة بقاء الاحتلال على مزاياه المتصورة عند أهله ، وهذا هو طريق كل الأمم والشعوب الحية .
Kandel2002@hotmail.co