بداية لا أقصد مشروعًا اقتصاديًا بالمعنى الضيق والمباشر، لكنى أقصد مشروعًا فكريًا وثقافيًا، وبطبيعة الحال قد يكون له وجه اقتصادى، حيث لا تنفصل السياسة عن الاقتصاد عن الناحية الاجتماعية والثقافية، فيجوز القول عن فلان/ فلانة إنه صاحب مشروع يقوم به، وله رسالة يعمل من أجلها ويكرس حياته لها، وهذا الأمر يصح أن يُعتبر ريادة أعمال ولكن من نوع خاص، لأنها ريادة ذات نكهة ثقافية وطبيعة فكرية، تتعامل مع العقل وتهتم ببناء الوعى وتكوين الشخصية فى مختلف النواحى والمجالات، وبالإجمال مشروعات ثقافية وفكرية غرضها صالح الوطن وتحقيق الخير العام.
وعبر تاريخ المصريين الحديث والمعاصر برز كثيرون من رواد ورائدات التنوير، أصحاب المشروعات الثقافية والعلمية، ممن تركوا بصمة واضحة فى تاريخ الفكر المصرى، ومن ذلك مثلًا أن المشروع الثقافى لرائد التنوير فى مصر الحديثة الشيخ رفاعة الطهطاوى تركز حول حركة الترجمة إلى العربية والاهتمام بنشر التعليم باعتباره مدخلًا للحداثة والتنوير، وكان البابا كيرلس الرابع، البطريرك الـ«110» ويُلقب بأبى الإصلاح القبطى، صاحب مشروع لتحديث الكنيسة القبطية فى أواسط القرن التاسع عشر، حيث اهتم بجلب مطبعة من الخارج وتثقيف رجال الدين وتأسيس عدد من المدارس وتعليم البنات.
وفى مجال تحرير المرأة وتنويرها برز المفكر والمصلح الاجتماعى قاسم أمين صاحب كتاب «تحرير المرأة- 1899م» وكتاب «المرأة الجديدة- 1900م»، حيث دعا إلى تعليم المرأة وعملها وحريتها وأنها «إنسان مثل الرجل»، ومن رائدات الحركة النسائية ممن كان لهن دور بارز فى مجال تحرير المرأة وتمكينها سياسيًا واجتماعيًا تبرز السيدة هدى شعراوى والصحفية بلسم عبد الملك والدكتورة درية شفيق والدكتورة سهير القلماوى والكاتبة أمينة السعيد وأخريات كثيرات.
أذكر أيضًا أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد ومشروعه «مصر للمصريين» والنهضة والتنوير، وعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين الذى اهتم بأحوال الثقافة ومجانية التعليم، ومن مقولاته «إن التعليم كالماء والهواء»، والمفكر والمصلح الاجتماعى سلامة موسى ومشروعه الخاص بتجديد الفكر وإعمال العقل، وكان الاقتصادى الكبير طلعت حرب صاحب مشروع تمثل فى استقلال مصر الاقتصادى يستكمل به جهود الاستقلال السياسى. كما ظهرت مشروعات فنية تناقش قضايا المجتمع المصرى، وتعمل على تحديثه، من خلال تأسيس فرق مسرحية وشركات إنتاج، قدمت أعمالًا فنية متميزة، ويبرز هنا يوسف وهبى ونجيب الريحانى وأم كلثوم، وغيرهم الكثير.
وهناك الدكتور ثروت عكاشة ومشروعه الخاص بنشر الثقافة وحركة النشر ومشروع الثقافة الجماهيرية «قصور الثقافة» فى محافظات مصر، والدكتور سيد عويس، أستاذ علم الاجتماع، ومشروعه الخاص بدراسة الظواهر الاجتماعية والعادات والسلوكيات والموروثات وقراءة تطورات الشخصية المصرية وتفاعلاتها اليومية، والمستشار الدكتور وليم سليمان قلادة ومشروعه الثقافى الخاص بترسيخ مبدأ المواطنة عبر مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وهكذا فى مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغيرها من فروع العلم، برز أساتذة وأستاذات من أصحاب المشروعات العلمية الرائدة.
وقائمة أصحاب المشروعات الثقافية والفكرية تطول لتشمل الدكتور زكى نجيب محمود والدكتور عبد الرحمن بدوى ومحمود أمين العالم والدكتور لويس عوض والدكتور فؤاد زكريا والدكتور محمد مندور والدكتور أنور عبد الملك والمفكر الكبير السيد يس والدكتور فرج فودة والدكتور جابر عصفور والدكتورة نعمات أحمد فؤاد والدكتور رفعت سعيد.. وبالطبع هناك أمثلة كثيرة يضيق المقام عن حصرها والإلمام بجميعها، كما أن من بين المثقفين المُعاصرين الذين يعيشون بيننا الآن من هم أصحاب مشروعات ثقافية وفكرية مهمومون ومهتمون بها، يمارسون عملهم وينقلون رسائلهم بطرق ووسائل شتى، منها الكتابة فى الصحف وإعداد البحوث الفردية والجماعية وتأليف الكتب ونشرها وإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وورش العمل والمؤتمرات وتنظيم الزيارات الميدانية للشباب والأطفال.
أتمنى أن يأتى وقت يكون فيه الأمر الشائع والطبيعى أن يتبنى الباحثون مشروعات بحثية، ليس بهدف الترقية العلمية فحسب، وإنما كدور ورسالة نحو الحقل البحثى واحتياجات المجتمع، وأن يكون كل أستاذ«ة» صاحب مدرسة علمية له هموم ومشكلات بحثية يعمل عليها مع تلاميذه وطلابه، لتظهر فى مقالات ومؤلفات وأبحاث ودراسات، ما يستدعى إعداد أجندة بحثية فى كل تخصص علمى، وأن يكون كل مثقف وكاتب صاحب مشروعات فكرية، فلا تكون الكتابة رغبة فى الشهرة أو كتابة لمجرد ملء صفحات.. وهنا واجب على مختلف مؤسسات المجتمع أن تعمل على إعداد المثقف/ الباحث صاحب الرسالة والمشروع.