عندما كانت مصر تنسج مشروعها الوطني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عبر المثال المصري محمود مختار عن هذا المشروع بعمل فني خالد وضع في ميدان يؤدي إلى الجامعة المصرية العصرية الأولى، جامعة فؤاد الأول التي تحولت إلى جامعة القاهرة، بمنحوتته الرائعة نهضة مصر. في تلك الحقبة المبكرة في فجر النهضة المصرية المعاصرة، يتواصل حاضر مصر الذي عبرته عنه فلاحة مصرية بسيطة كما يتضح من ملابسها المميزة مع ماضيها وتراثها الذي وضعت عليه يد الرعاية لتستنهضه، كانت مصر رائدة مشروع لا يعتمد على مفردات للقوة الخشنة، لكنها استطاعت أن تحول قواها الناعمة إلى مشروع جذب كل أصحاب المواهب والمبدعين من أرجاء المنطقة ليصبحوا جزءا من مشروع نهضتها أو لمحاولة التأثير على هذا المشروع وتوجيهه على نحو يعيد تعريف مصر وهويتها، لكنها كانت جاذبة وحاضنة وأحتضنت هذه المساهمات وأعادت نسجها لتنتج تجربة تاريخية فريدة تحت عنوان “مصر للمصريين” الذي أعطى تعريفا جديدا ومعاصرة لمصر وهويتها.. لم تفعل مصر ذلك بشراء المواهب وسرقة تراث الآخرين بل فتحت أبوابها للجميع كي يبدعوا ويعبروا عن أفكارهم ويسعون لتحقيق أحلامهم بالجهد والعرق، كل ما أتاحته مصر في تلك الفترة هو ساحات حرة للإبداع ومناخا يحترم التعددية والتنوع ويسمح بالتفاعل السلمي فيما بين الجماعات المختلفة التي تتنافس من أجل الأفضل والتي تقدم للعالم المحيط بها، بل وللعالم الأوسع جسورا للتواصل وتبادل المعرفة وسعيا لأن تكون لاعبا رئيسيا يحلم بعالم أفضل للجميع..
لا أبالغ إذا قلت إن أحد أسباب التردي العام الذي نشهده في منطقتنا هو نقطة تحول ناجمة عن صعود نخبة تعادي الشرط الأول والرئيسي للتطور الثقافي، وهو الحرية، وسعت إلى فرض السيطرة على العقول والأفكار بزعم رعاية الثقافة، فلم يُنتَج شيء، وبعد نفاد المخزون الثقافي الذي تشكل في عهود سابقة، أفقنا على أرض تم تجريفها، فأصبحت جدباء..
الأمل بات معقودا على مشروع يستنهض من جديد قوى مصر الناعمة.. مصر مليئة بالمبدعين الحقيقيين الذي يعملون في صمت بعيدا عن أضواء الشهرة التي يتحكم فيها من يرغب في تصدير صورة زائفة للثقافة والفنون، والسعي إلى تهميش وتشويه وتدمير المواهب الحقيقية لسلب مصر أحد أهم مصادر قوتها وسبب ريادتها الرئيسي.