وتحلّ الذكرى العطرة، ذكرى رحيل بابا العرب، قداسة البابا شنودة الثالث، رحل فى 17 مارس 2012، تاركًا كنيسة مصر عظيمة فى عهدة راهب صالح، بابا مصر، قداسة البابا تواضروس الثانى، خير سلف لخير خلف، الكنيسة المصرية ولادة.
«مصر وطن يعيش فينا، ليست وطنا نعيش فيه»، رحل قداسة البابا شنودة الثالث، وظلت أيقونته الوطنية التى ورثها عن العظيم «مكرم عبيد» خالدة، ترددها أجيال المصريين من بعد رحيله جيلًا بعد جيل.
ذكرى رحيل البابا شنودة الطيبة تستجلب طيب هذا الوطن، وما تبقى من سيرة بابا العرب كثير، أكثر من أن تحصيه الأقلام أو الأفلام، ويظل ما بين عامى 1971 عندما اعتلى كرسى البابوية، وبين 17 مارس 2012 تاريخ وفاته، حافلًا بالمواقف والأحداث الكنسية والوطنية، جميعها تشير إلى بابا استثنائى (كاريزما بابوية إنسانية) فى تاريخ الكنيسة المصرية.
وُلد نظير جيد عام 1923 فى قرية سلام بأسيوط وحصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ عام 1947، وتم تجنيده ضابطًا احتياطيًا بالجيش المصرى.
اهتم منذ شبابه بالكنيسة وعمل على تجديدها من خلال «مدارس الأحد» التى أصبح رئيس تحرير مجلتها الشهيرة، ولكنه آثر بعد ذلك حياة الرهبنة التى كان يتوق إليها منذ صباه، فترهبن عام 1954 تحت اسم أنطونيوس البرموسى، واختاره رجل الصلاة البابا «كيرلس السادس» سكرتيرًا له، ثم أسقفًا للتعليم، وبعد وفاة البابا كيرلس تم انتخابه بطريركا ليكون البابا الـ117 للكنيسة المصرية.
وخلال فترة توليه البابوية واجه البابا شنودة الكثير من الأزمات، التى بدأت بعد توليه البطريركية بشهور فيما عرف بأزمة «كنيسة الخانكة»، وأعقبها فى السنوات التالية العديد من الأحداث الطائفية، كان ذروتها حادث «الزاوية الحمراء»، والذى شهد هجومًا علنيًا لأول مرة من الرئيس الراحل محمد أنور السادات ضد البابا شنودة فى محفل عام.
وزاد من غضب السادات رفض البابا السفر معه إلى القدس عام 1977، وإعلانه رفض زيارة القدس، إلا بعد حل المشكلة الفلسطينية، وقال إنه لن يذهب إلى هناك إلا بصحبة شيخ الأزهر، وهو الموقف الذى كان محل تقدير من الجماعة الوطنية المصرية التى لقبته بـ «بابا العرب»، وهو اللقب الذى كان يستملحه كثيرًا ويعتز به كثيرًا.
لعل العام 1981 كان فارقًا فى حياة الرئيس الشهيد السادات، اغتاله المتطرفون فى يوم نصره، السادس من أكتوبر، كما كان فارقًا فى حياة البابا شنوة وتاريخه، عندما قرر عدم الاحتفال بعيد القيامة عام 1981 احتجاجًا على أحداث طائفية مروعة، مما أغضب السادات، ونقم على البابا، وعزله وتحفظ عليه فى دير «الأنبا بيشوى»، وتعيين لجنة من خمسة أساقفة لإدارة الكنيسة، وكان ذلك ضمن حملة اعتُقل خلالها أكثر من 1500 من القادة الدينيين والسياسيين ضمن ما عُرف فى توصيف الأستاذ هيكل بـ«خريف الغضب».
لم يعترف المسيحيون ولا المسلمون الوطنيون بقرار الرئيس السادات، وظل فى أعماقهم ووجدانهم أن البطريرك «شنودة الثالث» هو البابا الشرعى للكنيسة، وبابا المصريين والعرب.
وبعد وفاة الرئيس السادات أصدر الرئيس الراحل مبارك فى العام 1985 قرارًا موفقًا بعودة البابا شنودة إلى موقعه الكنسى مكرمًا معززًا، وكانت خطوة موفقة ترتب عليها عقود من التفاهم والتناغم بين البابا والرئيس، وتحسنت العلاقة بين الكنيسة والدولة، ولم يعكر صفوها وقوع العديد من الأزمات، وكان أبرزها الاعتداء على كنيسة «القديسين» بالإسكندرية خلال قداس عيد الميلاد عام 2011 وقبل ثورة يناير بأيام.
وظل البابا شنودة حتى تنيح حريصًا على مواقفه الوطنية والدفاع عن حقوق المسيحيين فى قلب الجماعة المصرية حتى اللحظات الأخيرة فى حياته، وعند وفاته انتحب الأقباط، وبكى المصريون جميعا، كان الفقد عظيما، ورغم مرور سنوات على رحيله الحزين إلا أنه ما زال حاضرا رغم الغياب!.
¿ ¿ ¿
من روائع أبو فراس الحمداني، البيت القائل: «سيذكرنى قومى إذ جد جدهم.. وفى الليلة الظلماء يُفتقد البدر»، وفى الليلة الفلسطينية الظلماء يُفتقد البدر المصرى، والبدر هنا مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية نيح الله نفسه، الملقب بـ«بابا العرب»، فى حياته تصدى بجسارة لنبوءة حكام إسرائيل، وآخرهم وليس بآخر نتنياهو، النبوءة التى تشكل الأسطورة المؤسسة للدولة العبرية، البنية الدينية، المستقاة من نبوءة أشعياء.
البابا العظيم عمد إلى تفنيدها، دحضها بحرفها، وتحريفها، وإسقاطاتها من زمنها الماضوى على واقع معيش، لا موضع فيه ولا مجال لمثل هذه النبوءات التى تشكل محفزات حروب دينية لا قِبل للبشرية بها.
البابا شنودة الثالث نيح الله روحه فى حياته فند هذه الأكذوبة، واستشهد بالعهد الجديد على ما يأفكون… وآخرهم نتنياهو الذى يغسل يديه الغارقة فى الدماء فى الأسفار الطاهرة.
فى العام 2002 عقد البابا مؤتمرًا شعبيًا فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، لإعلان دعمه للرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات بعد تحديد إقامته فى «رام الله»، وهاتفه تليفونيًا وسط جمع غفير من المصريين مؤازرا لصمود الشعب الفلسطيني.
وفاجأ البابا شنودة القائلين بنبوءة أشعياء، وقال بعلم المتمكن من حفظ الكتاب، والأمين على أسفار العهد الجديد: «إن إسرائيل ليست شعب الله المختار، وفكرة شعب الله المختار كانت لفترة معينة أو لغرض معين وانتهت، وإن إسرائيل الحالية ليست شعب الله المختار، وإن اليهود جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله».
وقبلها كشف البابا شنودة الثالث فى ندوة معرض الكتاب منتصف التسعينيات عن أكذوبة عودة اليهود، وقال قاطعا: إن قلنا إنه لا توجد آيات عن عودتهم… سيرصدون عشرات الآيات عن عودتهم، ولكن الحقيقة أنهم عادوا بالفعل أيام سبى بابل وآشور، وهناك ترنموا وبكوا قائلين: على أنهار بابل هناك جلسنا ولكن عودتهم المزعومة الآن غير حقيقية».
وخلال احتفالية اليوبيل الذهبى لجامعة الدول العربية فى عام 1995، وفى كلمته العميقة عن القضية الفلسطينية والقدس، قال فى الحضور العربي: «أما عن القدس، فاليهود يسمونها أرض الميعاد، ويقولون إنهم عاشوا فيها بوعد من الله، وأنا أقول لكم إنهم جاءوا إليها ليس بوعد من الله، وإنما بوعد من بلفور».
وعن الوعد أوضح قداسته، «الوعد الذى أعطاه الله أولا للآباء، كانت له ظروفه، وكان له شروط خاصة ومدى زمنى معين انتهى فيه، فالعالم قديما كانت تسوده الوثنية وعبادة الأصنام، وأراد الله أن يحفظ مجموعة من الناس بعيدا عن التأثير الوثنى فى أرض الآباء والأنبياء، فكان نسل أبينا إبراهيم، ونسل حفيده يعقوب إسرائيل، وأعطاهم الله وعدًا أن يعيشوا لكى يحفظوا الإيمان إلى أن يأتى الوقت لينتشر فيه الإيمان فى الأرض كلها وتذوب الوثنية وعبادة الأصنام ولكنه كان وعدا مشروطا».
وذكر طيب الذكر بابا العرب العظيم: «أن الذى حدث أن هؤلاء الناس عبدوا الأصنام حتى فى أيام موسى النبي، وعندما تأخر موسى النبى أياما على الجبل مع الله، نحتوا عجلا ذهبيا وسجدوا له، وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التى أخرجتك من أرض مصر، وغضب الله عليهم غضبا شديدا، وبعد ذلك بدأ داود النبى يتخذها عاصمة، له حتى القرن التاسع أو العاشر قبل الميلاد».
البابا شنودة قطع بأن فكرة شعب الله المختار قد انتهت، فهل من المعقول أن الله يترك آلاف الملايين الذين يعبدونه الآن، ويختار 3 ملايين يحتلون أرض فلسطين؟ لا يمكن.
وختم البابا العظيم مبحثه فى أصل وفصل شعب الله المختار، وأرض الميعاد، وسفر أشعياء، بقول صدام جلب عليه غضبة اليهود جميعا إلا المنصفين، ألقاها البابا الشجاع كقنبلة حارقة فى وجه الصلف الصهيونى الذى تحركه اللوبيات اليهودية حول العالم قائلا: «لم يحدث أن هناك شعبا غضب منه الله مثلما غضب من اليهود».