بقلم: داليا الحديدي
جلس.. جلس والقهر بعينيه .. يتأمل فنجانه المشروب.
قال: يا أخي.. لا تأبه .. التجاهل علينا هو المكتوب!
بهذه الإقتباسات “النزارية”، أفاض أحد رواد مقهى ” سترابوكس” في شكواه لجليسه.
كنت أقرأ بطاولة لصيقة بهم .. ولم استرق السمع، لكن شكواه كانت صرخة جريح ينازع ويتشبث بالبقاء .. فقد كان الرجل فيما يبدو شاعرًا مغمورًا، وقد استفاض في المجاهرة بضيقه كون إحدى المطربات قد نشرت مقطع من أغنيتها التافهة، فحازت 600 الف لايك في غضون ساعات، فيما لم تحصل قصيدته سوى على 17 إعجاب منذ شهور!
لكم أزعجه أنهم يمرون على قصائده فيمررونها بتجاهلهم لحلاوتها!
وحديث عن الظلم، يؤاخي شكوى ملؤها القهر والخيبة .. ثم اتفق له أن يواسي نفسه فقال
:ليس على الشاعر أن يبخع نفسه على اثآرهم، لكون بضاعة المبدع مزجاه لدى بعض الرويبضة!
وروي قصة طالب علم جاع يومًا، فذهب لسوق الخضار وأعطي الخضري نصف درهم، هو كل ما يملك .. واستعطفه أن يعطيه بقيمته ثمرة طماطم.
رفض البائع متعللاً بأن القدرة الشرائية للنصف درهم أقل من شراء أي شيء!
قال الشاب: أنا طالب لدى العالم الفلاني ولدى من الفكر الكثير والثمين، فلتمنحني طعامًا على أن أرده لك علمًا؟
رد الخضرجي: لو كان علمك يساوي شيئا لأكمل لك نصف درهمك!
عقل الشاب كلام الخضرجي واقتنع به، فقرر ترك دروس العلم والبحث عن عمل ولو يدوي يقتات به.
مرت أيام والفتى غائب عن الدروس، فاستفقده شيخه وذهب يعوده، لكن الطالب أخبره بقراره ترك ساحه العلم بعدما عقل حديث بائع السوق.
فقال المعلم: لا عليك، ولكني عادة ما أهدى المتخرجين هدية عقب اتمامهم لدراستهم وأنا أعتبرك قد تخرجت .. فهاك هديتك، فخذ هذا الخاتم.
أخذ الفقير الخاتم وذهب من فوره لبيعه بسوق الذهب، فاتهمه الصائغ بالسرقة لأن هناك استحاله أن يقتني شاب رث الهيئة لخاتم بهذه القيمة.
صمم الطالب على اصطحاب الصائغ لأستاذه لإثبات براءته وهو ما حدث، فاشترى الصائغ الخاتم من الطالب بمائة ألف دينار وبعدها، عاد لدروس العلم، فسأله أستاذه
:أي الأسواق ابتغيت حين فكرت في بيع الخاتم؟
قال: قصدت سوق الذهب
فقال شيخه: ولئن ذهبت تبيعه بسوق الخضار، لخسف بقدر الخاتم لجهل بائع الخضار بقيمة المعادن، فلا تبيع علمك بالأسواق البخسة ولا تجعل خضري يُقَيم الفكر.
■ ■ ■
هذه القصة ذكرتني بمئات الكتاب والفنانين والمبدعين البائسين الذين يعانون ماديًا، فمطلوب منهم انتاجًا فكرياً وابداعًا فنيًا بلا مقابل، فينتهى بهم الأمر مُعوَزين، حتى أن البعض صار ابأس من “العضروط” أي الخادم على طعام بطنه، الذي يكدح مقابل الحصول على الطعام فقط كبعض الخدم وكثر من ربات البيوت اللائي يأكلن من خشاش الدار.
ولم يرد في المعاجم اسماً لمن يعمل بأجرٍ لا يكفيه للحصول على قوت يومه أو من يعمل بلا أجر، ما يعني أن الأكثرية المبدعة في مجال الثقافة باتت أدنى منزلة من العضاريط!
كثر من الكتاب لا يجدون أشهى من نشر أعمالهم، بينما الناشر يريد كاتب أقل من عضروط!
فمهر الكاتب والفنان هو بمثابة وعد غير ملزم بالتقدير يومًا ما وقد يكون عقب وفاته. فالأدباء والمبدعين لم يتمنون يومًا ألق “اللعيبة”، لكنهم ودوا تقدير جمهور الملاعب!
فالمثقف يلتحف غطاء المعرفة ليتمهد أسرة التكريم، لكن ينتهي به الأمر خالد الذكر بتخت العراء!
■ ■ ■
يكتب الأديب معلقًا أمالاً أن “اسفاره” ستبقى بعد رفاته، ليفاجأ أنه هو نفسه قد سكن قبل الموت. مات عضروطًا يتنفس معرفة لا تسمن من جوع ولا تروي شره شرايين الحياة المادية!
ولا شك أن الأدباء والفنانين أغنياء كونهم يمتلكون ما لا يُمتلك بالمال، إلا أن المفارقة المؤسفة أنهم يعتازون النقد وأبدا لا يجدونه وكانوا قديمًا يصفون من امتهن الكتابة فيقولون عنه:” أخذته آفة الأدب” ويكأنه عليل!
فالكاتب يكون أحوج ما يكون لكنّه يُعدم، فيما اللاعب يكون أغني ما يكون، ثم أنه يُكرم.
هذا يقدح زناد فكره فيُنكر، وذاك يرمي رمية ببطن قدميه فيُعَظَم!
- يبدو أن حمولةُ العقل من الأفكارِ تكادُ تجعلُ تجارة خلجات الورق كاسدة.
- المثقف صار لا ينتظر جائزة لإبداعه، بل أمسى قنوعًا بلقب “رجل الحرمان” على أمل كسول أن يُغَرد له كروان النجاح في صبيحة مغيثة بعيدة!
- على وعد غير ملزم أن يثمر نجاحه يومًا عشب أخضر يتكئ عليه أو شقيقة نعمانية تهديه عطرها.
- على أمل دعاء أن ترحل عنه كوابيس يقظة أنهكته فواتيرها وأقساطها والتزامات لا
فكاك منها!
-وهربًا من قساوة لقب “العضروط”، يلجأ الكاتب للعمل بمهن شتى بحثًا عن حياة لا أقول كريمة ولكن لائقة أو للإنفاق على عمله الإبداعي الذي لا يتعجله سكرتير تحرير، ذاك الذي يجعل ثمار قلمه يورق.
■ ■ ■ - فهل يصدق القارئ أن شاعرًا ك”بدر شاكرالسياب” الذي قلب موازين الشعر العربي و جدد ما يعرف بشعر التفعيلة. هذا المجدد عمل كعتال، كذواقة وكموظف جمارك؟
هل سيصدق القارئ أن أمل دنقل كان في حياته من الدراما شيء ليس باليسير، ولكن سنكتفي بالقول أنه كان لا يجد قوت يومه؟!
ثم كيف يصل الأمر بالمازني لكتابة هذه المقدمة لكتابه “حصاد الهشيم” ؟
: “هذه مقالات مختلفة، تباع المجموعة بعشرة قروش لا أكثر، وأقسم لك أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجًا، ومجهود أعصابي بأبخس الأثمان! إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقَصرًا وعمقًا وضحولة، وأنت تشتري كلَّ أربعٍ منها بقرش! ثم أنك تشتري كتابًا هو على الأقل زينة على مكتبك، على أنك قد لا تهضم أكلة مثلًا فتشعر بالحاجة إلى التسرية وتجد أمامك هذا الكتاب؛ فالعن صاحبه وناشره ما شئت! ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتنكب به غيرك! أفقليلٌ كل هذا بعشرة قروش؟
ولم يكن الوضغ في الغرب أفضل، حتى أن الفنان الشهير “فان جوخ” عاش الضنك، فكان يضطر لإلقاء بعض أعماله في النار للتدفئة.
وفي العصر العباسي اضطر أيضًا، الجاحظ للعمل في مخبز نهارًا، فيما كان يعمل حارسًا لمكتبة بالليل، وظل يقرأ الكتب على ضوء شمعة، حتى جحظت عيناه، فسمي بالجاحظ!
رحمهم الله ورحم كل مبدع يكافح لينأى بنفسه عن لقب “عضروط” فيما يعيش مآسي بشرية تقتر حبرًا.
بقلم: داليا الحديدي
كاتبة مصرية
ولا عزاء للعضاريط
بقلم: داليا الحديدي
جلس.. جلس والقهر بعينيه .. يتأمل فنجانه المشروب.
قال: يا أخي.. لا تأبه .. التجاهل علينا هو المكتوب!
بهذه الإقتباسات “النزارية”، أفاض أحد رواد مقهى ” سترابوكس” في شكواه لجليسه.
كنت أقرأ بطاولة لصيقة بهم .. ولم استرق السمع، لكن شكواه كانت صرخة جريح ينازع ويتشبث بالبقاء .. فقد كان الرجل فيما يبدو شاعرًا مغمورًا، وقد استفاض في المجاهرة بضيقه كون إحدى المطربات قد نشرت مقطع من أغنيتها التافهة، فحازت 600 الف لايك في غضون ساعات، فيما لم تحصل قصيدته سوى على 17 إعجاب منذ شهور!
لكم أزعجه أنهم يمرون على قصائده فيمررونها بتجاهلهم لحلاوتها!
وحديث عن الظلم، يؤاخي شكوى ملؤها القهر والخيبة .. ثم اتفق له أن يواسي نفسه فقال
:ليس على الشاعر أن يبخع نفسه على اثآرهم، لكون بضاعة المبدع مزجاه لدى بعض الرويبضة!
وروي قصة طالب علم جاع يومًا، فذهب لسوق الخضار وأعطي الخضري نصف درهم، هو كل ما يملك .. واستعطفه أن يعطيه بقيمته ثمرة طماطم.
رفض البائع متعللاً بأن القدرة الشرائية للنصف درهم أقل من شراء أي شيء!
قال الشاب: أنا طالب لدى العالم الفلاني ولدى من الفكر الكثير والثمين، فلتمنحني طعامًا على أن أرده لك علمًا؟
رد الخضرجي: لو كان علمك يساوي شيئا لأكمل لك نصف درهمك!
عقل الشاب كلام الخضرجي واقتنع به، فقرر ترك دروس العلم والبحث عن عمل ولو يدوي يقتات به.
مرت أيام والفتى غائب عن الدروس، فاستفقده شيخه وذهب يعوده، لكن الطالب أخبره بقراره ترك ساحه العلم بعدما عقل حديث بائع السوق.
فقال المعلم: لا عليك، ولكني عادة ما أهدى المتخرجين هدية عقب اتمامهم لدراستهم وأنا أعتبرك قد تخرجت .. فهاك هديتك، فخذ هذا الخاتم.
أخذ الفقير الخاتم وذهب من فوره لبيعه بسوق الذهب، فاتهمه الصائغ بالسرقة لأن هناك استحاله أن يقتني شاب رث الهيئة لخاتم بهذه القيمة.
صمم الطالب على اصطحاب الصائغ لأستاذه لإثبات براءته وهو ما حدث، فاشترى الصائغ الخاتم من الطالب بمائة ألف دينار وبعدها، عاد لدروس العلم، فسأله أستاذه
:أي الأسواق ابتغيت حين فكرت في بيع الخاتم؟
قال: قصدت سوق الذهب
فقال شيخه: ولئن ذهبت تبيعه بسوق الخضار، لخسف بقدر الخاتم لجهل بائع الخضار بقيمة المعادن، فلا تبيع علمك بالأسواق البخسة ولا تجعل خضري يُقَيم الفكر.
■ ■ ■
هذه القصة ذكرتني بمئات الكتاب والفنانين والمبدعين البائسين الذين يعانون ماديًا، فمطلوب منهم انتاجًا فكرياً وابداعًا فنيًا بلا مقابل، فينتهى بهم الأمر مُعوَزين، حتى أن البعض صار ابأس من “العضروط” أي الخادم على طعام بطنه، الذي يكدح مقابل الحصول على الطعام فقط كبعض الخدم وكثر من ربات البيوت اللائي يأكلن من خشاش الدار.
ولم يرد في المعاجم اسماً لمن يعمل بأجرٍ لا يكفيه للحصول على قوت يومه أو من يعمل بلا أجر، ما يعني أن الأكثرية المبدعة في مجال الثقافة باتت أدنى منزلة من العضاريط!
كثر من الكتاب لا يجدون أشهى من نشر أعمالهم، بينما الناشر يريد كاتب أقل من عضروط!
فمهر الكاتب والفنان هو بمثابة وعد غير ملزم بالتقدير يومًا ما وقد يكون عقب وفاته. فالأدباء والمبدعين لم يتمنون يومًا ألق “اللعيبة”، لكنهم ودوا تقدير جمهور الملاعب!
فالمثقف يلتحف غطاء المعرفة ليتمهد أسرة التكريم، لكن ينتهي به الأمر خالد الذكر بتخت العراء!
■ ■ ■
يكتب الأديب معلقًا أمالاً أن “اسفاره” ستبقى بعد رفاته، ليفاجأ أنه هو نفسه قد سكن قبل الموت. مات عضروطًا يتنفس معرفة لا تسمن من جوع ولا تروي شره شرايين الحياة المادية!
ولا شك أن الأدباء والفنانين أغنياء كونهم يمتلكون ما لا يُمتلك بالمال، إلا أن المفارقة المؤسفة أنهم يعتازون النقد وأبدا لا يجدونه وكانوا قديمًا يصفون من امتهن الكتابة فيقولون عنه:” أخذته آفة الأدب” ويكأنه عليل!
فالكاتب يكون أحوج ما يكون لكنّه يُعدم، فيما اللاعب يكون أغني ما يكون، ثم أنه يُكرم.
هذا يقدح زناد فكره فيُنكر، وذاك يرمي رمية ببطن قدميه فيُعَظَم!
- يبدو أن حمولةُ العقل من الأفكارِ تكادُ تجعلُ تجارة خلجات الورق كاسدة.
- المثقف صار لا ينتظر جائزة لإبداعه، بل أمسى قنوعًا بلقب “رجل الحرمان” على أمل كسول أن يُغَرد له كروان النجاح في صبيحة مغيثة بعيدة!
- على وعد غير ملزم أن يثمر نجاحه يومًا عشب أخضر يتكئ عليه أو شقيقة نعمانية تهديه عطرها.
- على أمل دعاء أن ترحل عنه كوابيس يقظة أنهكته فواتيرها وأقساطها والتزامات لا
فكاك منها!
-وهربًا من قساوة لقب “العضروط”، يلجأ الكاتب للعمل بمهن شتى بحثًا عن حياة لا أقول كريمة ولكن لائقة أو للإنفاق على عمله الإبداعي الذي لا يتعجله سكرتير تحرير، ذاك الذي يجعل ثمار قلمه يورق.
■ ■ ■ - فهل يصدق القارئ أن شاعرًا ك”بدر شاكرالسياب” الذي قلب موازين الشعر العربي و جدد ما يعرف بشعر التفعيلة. هذا المجدد عمل كعتال، كذواقة وكموظف جمارك؟
هل سيصدق القارئ أن أمل دنقل كان في حياته من الدراما شيء ليس باليسير، ولكن سنكتفي بالقول أنه كان لا يجد قوت يومه؟!
ثم كيف يصل الأمر بالمازني لكتابة هذه المقدمة لكتابه “حصاد الهشيم” ؟
: “هذه مقالات مختلفة، تباع المجموعة بعشرة قروش لا أكثر، وأقسم لك أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجًا، ومجهود أعصابي بأبخس الأثمان! إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقَصرًا وعمقًا وضحولة، وأنت تشتري كلَّ أربعٍ منها بقرش! ثم أنك تشتري كتابًا هو على الأقل زينة على مكتبك، على أنك قد لا تهضم أكلة مثلًا فتشعر بالحاجة إلى التسرية وتجد أمامك هذا الكتاب؛ فالعن صاحبه وناشره ما شئت! ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتنكب به غيرك! أفقليلٌ كل هذا بعشرة قروش؟
ولم يكن الوضغ في الغرب أفضل، حتى أن الفنان الشهير “فان جوخ” عاش الضنك، فكان يضطر لإلقاء بعض أعماله في النار للتدفئة.
وفي العصر العباسي اضطر أيضًا، الجاحظ للعمل في مخبز نهارًا، فيما كان يعمل حارسًا لمكتبة بالليل، وظل يقرأ الكتب على ضوء شمعة، حتى جحظت عيناه، فسمي بالجاحظ!
رحمهم الله ورحم كل مبدع يكافح لينأى بنفسه عن لقب “عضروط” فيما يعيش مآسي بشرية تقتر حبرًا.
بقلم: داليا الحديدي
كاتبة مصرية