زارني في منزلي للمعايدة إخواني اعضاء أسرة وادي النيل( وهي جمعية أهلية أنشئت عام1996 وتضم باقة من خيرة المصريين وبجوارهم السودانيين المقيمين في مصر أو السودان وكان حديثنا عن أهمية إنتشار النموذج المصري للمعايشة وكيف أن ذلك ينتقل تدريجيا إلي السودان ليلين العلاقات المشدودة والمتوترة بين الشمال والجنوب، وذكر الأخوه السودانيون كيف أن أقباط مصر( وبالذات من ينتمون إلي مدينة نقادة في محافظة قنا) قد استوطنوا السودان عندما هاجروا اليها عقب حملة محمد علي باشا وصار الأقباط بما فيهم النقادية وينطقونها النجادية من خيرة رجالات السودان الوطنيين ويقطنون في حي المسالمة في مدينة أم درمان وكذلك في عطبرة ومدني وكوستي وغيرها من مدن السودان الكبري في الشمال.
وقد ذكر لنا المهندس توفيق بيومي، سكرتير عام اسرة وادي النيل وهو سوداني جذوره مصرية، ولون بشرته فاتح كيف إستقبل أهالي الخرطوم القافلة الطبية المصرية التي كان قد رتبت لها الأسرة، حيث تم إجراء عمليات عيون( ميه بيضه أو غيرها) كجهد خيري قدمه الجراحون المصريون دون مقابل لنحو مائتي سوداني.وكان يقود هذا الفريق الصديق د.بشر قناوي ومعه باقة من عشرة من جراحي عيون مصر بالتعاون مع د.أحمد بلال وزير الصحة السوداني وبضيافة الزعيم أحمد عبدالرحمن محمد الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية مع السودان، وقد عادوا مبهورين ومشحونين بالعواطف المتدفقة للشعب السوداني الطيب وقد ذكرلي كل من الدكاترة يحيي صلاح وايهاب الريس وعادل علي الدين ماملخصه:
الآن فهمنا سر حبك لشعب السودان البسيط بمشاعره الصادقة معبرين عنها ببساطة دون تزويق.
وسوف تستمر الأسرة في نهج إرسال قوافل طبية لأطباء مصريين متطوعين من تخصصات يحتاجها شعب السودان من الفقراء يقدمون خدماتهم متطوعين، وسيزورون تباعا جميع أنحاء السودان( شماله وجنوبه علي حد سواء، مدنه وقراه)، ومع توالي القوافل ستعود عواطف المودة ويحقق التقارب والتآخي من خلال الجمعيات الأهلية، وبمعاونة رجال الأعمال وهناك مجموعة ممتازه من الأثرياء السودانيين الذين قد وظفوا ـ علي حد ما قدمه لي من معلومات زعيم سوداني معروف ـ في البلدين نحو7 مليارات جنيه مصري يوظفها سودانيون في مصانع ومشاريع استثمارية في مصر ولذا فإن شعار التآخي والتعاون بين مصر والسودان ليس مسألة عواطف انسانية فحسب، وإنما لها عوائد إقتصادية هائلة لكلا البلدين، ومن المعروف أن معظم السودانيين يؤثرون العلاج ـ في الحالات التخصصية ـ في مصر وهو مصدر ايراد ـ غير منظور ـ للواردات النقدية.
أيا ما يكون من أمر، فقد توجهنا جميعا نحن أعضاء مجلس ادارة أسرة وادي النيل يتقدمنا الأخ العزيز د. صوفي أبوطالب( والذي كان أحد من صاغوا ميثاق التكامل بين مصر والسودان في أوائل الثمانينات) أقول، توجهنا إلي المقر البابوي بالعباسية للتهنئة بعيد الميلاد ـ كما كنا نفعل منذ سنوات ـ وإذ بنا ولأول وهلة نشعر بأثار قرار الرئيس: الزحام شديد، المهنئون ليسوا فقط المسئولين من وزراء ومحافظين، ولكن تدفق الأهالي وبسطاء الناس، فقد صار عيد الميلاد، عيدا مصريا قوميا.
وعندما دعاني قداسة البابا لنقف علي درج المدخل الخارجي لنأخذ صورة تذكارية مع قداسته ـ وكعادته ـ داعب البابا د.صوفي أبوطالب، قائلا عندما كان د.صوفي رئيس مجلس الشعب وكنا نتحاور حول قضايا الوطن وبعض المشروعات التشريعية( والتي لم تتحقق) كان الحوار يجري بين راهب، وصوفي، فكان حوارا متجردا متقشفا، فضحكنا، وأجاب. د.صوفي: وقت أن كنت رئيس جامعة القاهرة كانت أسماء نائبي الرئيس تحمل ألقاب درويش وعدوي أي معبرة عن فرق صوفية إسلامية فحضرتني النكبة وقلت بسرعة: ومن هنا كانت في حاجة إلي راهب في قدرات البابا شنودة حتي تتحقق الوحدة الوطنية، فضحك الجميع، وتمنينا أن تسري ثقافة الوحدة الوطنية المصرية إلي السودان( بين الأعراق والأديان والقبائل المتصارعة لحروب طويلة) لتكون السودان مثل مصر، تنعم بالوحدة من خلال التنوع الذي يوفر الثراء الثقافي وهو صلب وعصب الصراع الحالي في مواقع كثيرة في السودان.
يعرف المتخصصون في المسائل الدينية أن المسيحيين في الغرب يهتمون كثيرا بالاحتفال بعيد الميلاد الكريسماس( والذي يحتفلون به يوم25 ديسمبر وذلك لخلافات في حسابات فلكية للسنة الشمسية) ويعتبرونه العيد الكبير، أما عيد القيامة ويسمونه الايستر اي الشرقيEaster فعادة ما يمر مر الكرام دون بهجة الكريسماس أما لدينا في الشرق، فإن إهتمام المسيحيين هو بعيد القيامة ويسمونة بالعيد الكبير ولابد أن يكون الاحتفال بالعيد موافقا يوم أحد سواء للكنائس الغربية أم الشرقية، وقد جري العرف في مصر بالذات لا أعرف متي بدأ هذا التقليد أو العرف) بأن يتم الاحتفال بعيد شم النسيم يوم الاثنين التالي للعيد الكبير للأقباط الأرثوذكس، ولذا فإنني أتمني لو صار يوم العيد الكبير للأقباط عيدا قوميا للمصريين جميعا، ذلك لأن وجود يومين أجازة متصلة لكل الموظفين في الحكومة تحت مسمي الاحتفال بأعياد الربيع في مصر أو أعياد شم النسيم ستقابل بالابتهاج لكل المصريين مدعما لفكرة الانصهار الوطني وتزيد من سعادة المصريين جميعا، وقد ذكرت لي د. زبيدة فاصل عطا نصوص المقريزي للمشاركة العامة في اعياد الأقباط.
وأنتهز هذه الفرصة، لكي ألقي بعض الأضواء أيضا علي موضوع ربط المصريين الذين هاجروا بشكل دائم ومستقر لأربعة أركان الأرض، فقد صاروا كتلة بشرية مؤثرة في كل من أمريكا وكندا في غرب الأطلسي، وفي كثير من دول الاتحاد الأوروبي في شرقه، ولابد من الاعتراف بالأمر الواقع، وهو أن هذه الملايين من خيرة أهل مصر المتعلمين والمنتمين لاختصاصات مهنية رفيعة المستوي قد تركوا وشأنهم، كل يصرف أموره بطريقته، فكانوا أن تجمعوا في مؤسساتهم الدينية المسلمون أنضموا إلي الجمعيات الأهلية في الجوامع مع إخوانهم العرب والباكستانيين والايرانيين وغيرهم، أما الاقباط فقد تمسكوا ـ عادة ـ بالعقيدة الارثوذكسية القبطية، وجمعوا تبرعات اذ وجدوا الدفء الوطني تحت مظلة الكنيسة المصرية، وقد قام البابا شنودة بجهد هائل عبر سنوات طويلة وبفكر ثاقب لتجميع الأقباط في هذه الشبكة الهائلة من الكنائس في أربعة أركان المسكونة حتي لايضيعوا في فضاء الحضارة الغربية وإبقاءا لتمسكهم بالوطن من خلال الانتماء الديني.
وفي تصوري فإن إقتراح اعادة تجميع الاجهزة المتناثرة التي ترعي شئون المصريين المهاجرين في شكل وزارة متخصصة ومتفرغة قد صار ضرورة في ظل هذه الهجمة علي الحضارة الاسلامية، وليبقي الوجود والنشاط في الجوامع والكنائس كما هو حاليا، ولكن الدولة وهذه الوزارة في ثوبها الجديد تشجع إنشاء نوادي تجمع المصريين جميعا ـ كما هو الحال في بعض عواصم أوروبا الغربية وبالذات في لندن وباريس، وهذه النوادي أو الجمعيات الوطنية سهلة التسجيل في إطار القوانين التي تسمح بقيد الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بمجرد الإخطار للعلم والأمر لن يحتاج إلا لخطة من الدولة ممثلة في وزارة الهجرة.. ذلك أن لمصر ريادتها ومكانتها في العالم العربي والإسلامي والقبطي.
ولا أمل أن أكرر طرح استراتيجية الصين الشيوعية في الاستفادة من أثريائها وعلمائها المهاجرين خارجها فقد رفعت شعار وطن وأم واحدة تحتضن نظامين بيديها، فبواحدة تحتضن الصين الرأسماليين الصينيين في الخارج وبالأخري تحتضن أهل الداخل فالصينيون الأثرياء والعلماء منتشرون ومنذ عشرات السنين في أحيائهم الخاصة في أمريكا وجنوب أفريقيا والهند وغيرها، وهذه الرأسمالية الصينيه في الخارج قد دعيت لتشارك النظام الشيوعي في داخل الصين، وهذا المبدأ كان حجر الزاوية في جذب الاستثمار والتكنولوجيا إلي الصين بعد أن خصصت الدولة مناطق لاستقبال استثمارات الصينيين في الخارج فقدموا ومعهم التكنولوجيا المتقدمة فأمكن أن تصل الصين إلي نحو12% نسبة نمو اقتصادي سنوي ولعلها أكبر زيادة نمو في العالم وسر انتشار بضائعها فجعلت من الصين دولة عظمي صاعدة وهي ذاتها التي عزلتها أمريكا لسنوات طويلة عقب وصول ماوتسي تونج إلي السلطة عام1949 وربما كان هذا هو السر في بقاء ونمو الصين الرائع والسريع وفي المقابل تفكك الاتحاد السوفيتي.
ومن جانب آخر، أتمني في إطار مفاهيم تجديد الحزب الوطني من داخله ـ تبني فكرة التخطيط ليشارك المصريون المهاجرون هجرة دائمة ـ مادام لديهم جواز سفر مصري وماداموا مستمتعين بمزايا الانتماء الي الجنسية المصرية ان يمارسوا المشاركة القانونية في العمليات الانتخابية في مصر، ليس في دوائرهم الانتخابية فحسب، وإنما في الاستفتاءات العامة، وفي اعتقادي فإن مثل هذا القرار سوف يؤدي لتحسين أداء العملية الانتخابية هنا داخل مصر وسوف يربط المصريين بالوطن الأم ويعمق الانتماء إلي الوطن، وعلي الله قصد السبيل.