يحتفظ «فيس بوك» بصورة معبرة، صورة بألف صورة، صورة الحالة التى كان عليها العم الطيب طيب الذكر «جورج إسحق».
فى الصورة يقف فى ميدان التحرير كالملاك الحارس يحرس المصلين وهم سجود، صورة تُذكرك بطقس اضطلاع إخوتنا المسيحيين بصب ماء الوضوء لإخوتهم المسلمين ليصلوا صلاة فى حب الوطن.
وإن تعدوا صور المحبة، التى سجلها العم جورج إسحق فى حياته- توفى عن (85 عامًا)- جميعها تشكل عنوانًا عريضًا لمواطن مصرى صالح عاش معارك وطنه بكل جوارحه، ولم يدخر لنفسه، استثمر فى المحبة، فأحبه خلق كثير، ومَن يحبه ربه يحبب فيه خلقه.
اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية، هكذا سارت علاقتى بالعم جورج إسحق، نيّح الله روحه، تعرفت عليه إعلاميًّا، قامة وطنية، يعتنق المواطنة فى تجليها، حب لأخيك ما تحب لنفسك، ولكنه على طريقته الخاصة حول المعرفة العابرة إلى صداقة محببة.
طيب الذكر ما كان يخفى تقديرًا، وكان حريصًا على التعبير عن مكنون صدره من محبة بلغته الخاصة، هاشًّا باشًّا فى وجه مَن يحب، يبتدر حتى المختلفين بابتسامة عريضة تُذيب الجفوة السياسية والبغضاء.
سره الخاص حب الوطن، ملك عليه حياته، فمضى فى طريقه ملبيًا نداء الوطن لا يلوى على شىء، ولا يطلب شيئًا فى عفة وتواضع واستغناء.
الكتابة عن العم جورج تأخرت طويلًا حتى وافته المنية، وهذا طبع الأيام الصعبة، تدهمنا عجلاتها المسرعة بالأحداث صاخبة، فننسى فى الظروف المدلهمة أن نتوقف هنيهة للتواصل ووصل ما انقطع، ولكنها الحياة كما يقولون «تلاهى»، نتلهّى عن السؤال عن الحال والأحوال، حال الدنيا.
رحيل العم جورج فى صمت يفطر القلب، رحيل المحترمين تباعًا يورثنا حزنًا مضاعفًا، والوطن فى حاجة ماسّة إلى مثل هذه النخب من الوطنيين الخلصاء الذين يعلون شأن المواطنة على ما سواها، ويدفعون ثمن اختباراتهم راضين مرضيين.
ارتسم فى هزيع عمره الأخير (مع بواكير يناير 2011) معارضًا مهذبًا شريفًا، المعارضة فن أدب الاختلاف، مستمسكًا بالعروة الوثقى «حب الوطن»، وظل حتى النفَس الأخير مدافعًا عن أغلى اسم فى الوجود فى وجه الغاصبين والمرجفين وإخوان الشيطان.
حتى عندما ترشح فى مسقط رأسه، المدينة الباسلة «بورسعيد»، وكان صاحب شعبية جارفة، تكالبت عليه فلول الإخوان تقطيعًا وتجريحًا لتحرمه من مقعد برلمانى كان جديرًا به، ووعى العم جورج الدرس، درسًا يقول: «الإخوان ملهمش أمان»، قالها عبدالناصر زمان.
ما هان العم الطيب ولا استكان ولا لانت عريكته ولا فترت عزيمته، وتحول سريعًا إلى الملف الحقوقى مدافعًا عن حقوق الإنسان المصرى، مطالبًا بالكرامة الإنسانية، معبرًا عن قناعاته فى مقالات تحمل أفكارًا، آخرها نُشر فى «المصرى اليوم» الأسبوع الماضى.
جد استبشرنا خيرًا بعودته إلى الكتابة بمعنى عودته إلى الحياة من سرير المرض بعد انقطاع دام طويلًا، ولكنها كانت «الإطلالة الأخيرة» على وجه الوطن.
مقاله الأخير حمل وصيته، بل قل أمنيته، مثله لا يكتب وصايا يفضلها أمانى عِذابًا، يقول العم جورج نصًّا: «نستطيع أن نقرر هذا الدستور فى الحفاظ على مصر وحمايتها من أى تدخل أجنبى لبناء دولة مدنية حديثة. نتمنى ذلك».. أمنية العم جورج وعد وعهد ستتحقق، قِرّ عينًا عَمَّنا فى جنات النعيم.